مسالك علماء المذهب في تحقيق المذهب -المذهب المالكي أنموذجا- “مقدمة في بيان تحذير علماء المالكية من التخير بين الأقوال إتباعا للهوى والشهوة” رشيد مومن الإدريسي

بذل علمائنا المالكية -كغيرهم من علماء المذاهب- جهودا بارزة لتحقيق مذهبهم، لما عرض في ذلك من كثرة الأقوال في المسألة الواحدة والتعارض الحاصل في بعضها، مما أوجب سلوك جملة من المسالك، والأخذ بطرائق لأجل ذلك(1) طلبا للصواب والحق والهدى، وبعدا عن التخير من الأقوال والوجوه بالتشهي والهوى، حتى لا يقع التلاعب بدين الله جل وعلا.

يقول تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، وقال سبحانه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم).
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “فدل هذا على بيان وجوب الحكم الحق ولا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرها” الجامع لأحكام القرآن 15/189.
ونقل الشاطبي المالكي رحمه الله عن أبي الوليد الباجي رحمه الله في معرض الكلام عن التحذير من التخير بين الأقوال دون نظر ولا ترجيح: “وهذا مما لا خلاف بين من يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقده أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وأن احكم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم)” الموافقات 4/140.
وعليه حذر فقهائنا رحمهم الله من التخير بين الأقوال من المذهب خاصة أو من غيره والأخذ بالأقوال الشاذة والضعيفة(2) إتباعا للهوى والشهوة، ودعوا إلى إغلاق هذا الباب الذي فتحه الشيطان للناس على مصراعيه فانتهكت المحرمات، وتركت الواجبات تعلقا بقول زيف وتمسكا برخصة كالطيف!
ولذا ذكر أهل العلم مفاسد تتبع هذه الرخص والأقوال الشاذة والضعيفة والمرجوحة، فها هو الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله يستعرض لنا جملة منها حيث قال:
“كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، فتجور القضاة في أحكامها، فيفتي القاضي لمن يحب بالرخصة ولمن لا بالتشديد، فتسود الفوضى والمظالم، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق الإجماع..” الموافقات4/147-148.
ومن تم فإن الإشاعة لغثاتة الرخص والتجسيد للآراء الشاذة والضعيفة وتربية مولودهما “التلفيق” بمعنى جمع الرخص والشواذ: منابذة للاعتقاد السليم، بل هي من صنع العداء، ومحتضنها يكون بأسا على المسلمين وبلاء.
فلله كم تربع على وكر هذه الفتنة من مارد، وأبرزها باسم الشريعة من متحايل على شبه يبديها أو يبتديها، والقلوب ضعيفة والشبه خطافة.
ولذا اتفق أهل العلم على تحريم تلقط الرخص وتتبع الشواذ من الأقوال وإفتاء الناس بها.
قال سليمان التيمي رحمه الله: “لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله”.
قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله معقبا: “هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا” الجامع 2/91-92.
وممن حكى الاجماع على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله كما نقل عنه ذلك الشاطبي رحمه الله في الموافقات4/134.
مع التنبه عند هذا المقام أن الذي له الحق في الحكم على القول بالشذوذ هم أهل العلم لا غير، لأنهم أعرف الناس بالخلاف والأدلة قوة وضعفا.
قال الشاطبي المالكي رحمه الله في معرض الكلام عن ذلك: “فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم، فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافًا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافًا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية، فأما المخالف للقطعي(3)؛ فلا إشكال في اطراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه، لا للاعتداد به وأما المخالف للظني؛ ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره” الموافقات 4/ 173 وانظر تمامه فإنه نفيس.
وللبحث بقية…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- وقد مرَّ ذكر بعضها.
2- وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الأخذ بالقول الضعيف عند الضرورة، وممن رخص في ذلك المالكية بشروط ثلاثة وهي: أن تلجئ إليه الضرورة، وأن لا يكون ضعفه شديداً جداً، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً. ذكره البناني في حاشيته على الزرقاني عن المسناوي (5/124).
ونظمه عبد الله في مراقي السعود حيث قال:
وذِكْـرُ ما ضَعِّفَ لَيْسَ للعَمَلْ *** إِذْ ذاكَ عَـنْ وِفَاقِهِمْ قَدِ انْحَظَلْ
بلْ للتَّـرَقي في مَـدارِجِ السَّنا *** ويَحْفَـظَ المُـدْرَكَ مَنْ لَهُ اعْتِنا
أولِمــُراعَاةِ الخِلافِ المُشْتَهِرْ *** أوِ المُراعاةِ لِكُلِّ مَا سُطِــــرْ
وكَوْنِهِ يُلْــجى إليهِ الضَّرَرُ *** إنْ كانَ لَمْ يَشْتَــدّ فِيهِ الخَوَرُ
وثَبَتَ العَــزْوُ وقَـدْ تَحَقَّقَا *** ضُرّاً من الضُّرِّ بِهِ تَعَلَّــــقَا
ويضاف إلى تلكم الشروط ما هو معروف بداهة في الصنعة الفقهية والأصولية: أن تقدر الضرورة بقدرها، وألا يؤدي هذا الأخذ إلى مفسدة راجحة.
3- المراد بالقطعي هنا ما يشمل النص على المعنى الخاص عند الأصوليين، وكذا الظاهر فتنبه، وهو اصطلاح جرى عليه أهل العلم في مثل هذه السياقات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *