تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك سد الذرائع -الحلقة السابعة عشر- رشيد مومن الإدريسي

اعلم أن سد الذرائع من أصول مذهب مالك رحمه الله التي يحتج بها في أمور الشرع ويعتمد عليها، وصورتها عموما أنه إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة منع منه.

قال ابن أبي كف المحجوبي الشنقيطي في نظمه:
وسد أبواب ذرائع الفساد فمالك له على ذه اعتماد
قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله: “ذهب مالك رحمه الله إلى المنع من الذرائع، وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى المحظور” الفصول 689 فما بعدها.
والسد في اللغة: “ردم الثلمة، ويطلق على الحاجز بين شيئين” معجم مقاييس اللغة.
أما الذريعة لغة فهي: “الوسيلة والسبب إلى الشيء” لسان العرب.
وعليه عرف الإمام القرافي المالكي رحمه الله الذريعة بقوله: “والذريعة والوسيلة للشيء، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعا له، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك رحمه الله” شرح تنقيح الفصول 448.
والملاحظ في كلام الإمام القرافي رحمه الله التسوية بين مصطلحي الذريعة والوسيلة وقد صرح بهذا في موضع آخر حيث قال: “الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة..” تنقيح الفصول 444.
إذن فمذهب الإمام القرافي المالكي رحمه الله التسوية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل كما هو مذهب غيره من المالكية.
وذهب كثير من العلماء إلى التفريق بينهما بجملة من الفروق من ذلك: أن تحريم الوسائل هي: أمر محظور في نفسه (أي: الوسائل) لأنه يؤدي إلى محظور شرعي، أما في سد الذرائع فحكم الذريعة في نفسها الإباحة، والمسألة اصطلاحية لا غير والعلم عند الله.
جاء في الفرق الثامن والخمسين من الفروق 2/32: “وربما عبر عن الوسائل بالذرائع وهو اصطلاح أصحابنا، وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا، ولذلك يقولون سد الذرائع ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها..”.
وأصل سد الذرائع ثابت بالقرآن والسنة وعمل الصحابة.
أما القرآن فمن ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا).
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “نهى الله تعالى المومنين أن يقولوا للنبي عليه الصلاة والسلام (راعنا) مع قصدهم الحسن، لاتخاذ اليهود لهم ذريعة إلى شتمه عليه الصلاة والسلام” الموافقات 2/360.
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لعائشة رضي الله عنها: “لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام، فإن قريشا استقصرت بناءه وجعلت له خلْفا”.
وقد بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على الوصيف الذي أراده الرسول عليه الصلاة والسلام لما زال السبب الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولما أراد هارون الرشيد أن يهدمه مرة أخرى، ليعيد بناءه نهاه الإمام مالك رحمه الله سدا للذريعة قائلا له: “ناشدتك الله لا تجعل بيت الله ألعوبة للملوك، كلما جاء ملك نقضه وبناه، فتزول هيبته من قلوب الناس، فانتهى هارون الرشيد عن ذلك”. انظر فتح المنعم على زاد مسلم 2/141، وانظر الموافقات 4/197.
وقد عمل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بأصل سد الذرائع، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولو لم يكن هذا الأصل معروفا بالاصطلاح نفسه، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
فقد أخذ رضي الله عنه بحقيقة هذا الأصل وطبقه في حالات كثيرة منها:
أنه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي خلافته رضي الله عنه كان الناس يأتون إلى الشجرة التي تمت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها، لما لها من ذكر في القرآن الكريم معززا بحدث بيعة الرضوان.
فقال عمر رضي الله عنه: “أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، ثم أمر بها فقطعت”. انظر منهج عمر بن الخطاب في التشريع 468.
ومن المهم في هذا الباب أن يعلم أن تقرير سد الذريعة مبني على النظر في مآلات الأفعال كما قرره الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله حيث قال: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك” الموافقات 4/194.
والذرائع عموما على ثلاثة أقسام كما بينه جماعات من أهل العلم منهم الإمام القرافي رحمه الله في الفروق 2/32:
أحدها: ما أجمع العلماء على المنع منه اتفاقًا، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة على وجه القطع أو الظنّ الغالب، كبيع السلاح وقت الفتنة، وحفر الآبار في طرق المارة، أو سب أصنام من يعلم أنَّه سيَسُبُّ الله تعالى.
ثانيها: ما أجمع العلماء على عدم المنع منه ، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة نادرًا، فقد اتفقوا على أنَّها ذريعةٌ لا تُسَدُّ، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذ الخمر منه؛ لأنَّ في زرع العنب نفعًا كثيرًا فلا يترك ذلك باحتمال أن يتخذ خمرًا.
ثالثها: ما اختلفوا فيه وهو ما يؤدِّي إلى مفسدةٍ غالبًا كبيوع الآجال مثل بيع العِينة.
وهذا القسم اعتبره مالك وأحمد وأكثر أصحابهما أصلاً من أصول الفقه، وأجازه أبو حنيفة والشافعي في بعض الحالات، وأنكر العمل به في حالات أخرى، وأبطله ابن حزم مُطلقًا.
ومما ينبغي التنبه إليه في هذا المقام أن الإمام مالك رحمه الله لم ينفرد ويختص بالقول بسد الذارئع كما ذكره بعض المالكية ولذا قال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “مالك لم ينفرد بذلك، بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها، إلا من حيث زيادتهم فيها” انظر إرشاد الفحول للشوكاني رحمه الله 2/194.
وقال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا، ثم قرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعا أو لا؟ الأول ليس من هذا الباب، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والذي لا يلزم، إما أن يفضي إلى المحظور غالبا، أو ينفك عنه غالبا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمى بالذرائع عندنا، فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التهمة البعيدة، والذرائع الضعيفة” نفسه.
ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن ما نهي عنه سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة بخلاف مذهب مالك رحمه الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما مالك رحمه الله فإنه يبالغ في سد الذرائع حتى ينهى عنها مع الحاجة إليها” الفتاوي 23/215.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *