مسالك علماء المذهب في تحقيق المذهب المذهب المالكي أنموذجا “التعرف على الخلاف” -الحلقة الأولى- رشيد مومن الإدريسي

لا يخفى على أهل النظر وأرباب الصنعة الفقهية أن التعرف على الخلاف من المهمات في باب تحقيق الأقوال وتحرير المسائل، ولذا قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “ولذلك جعل الناس العلم: معرفة الاختلاف. فعن قتادة رحمه الله: (من لم يعرف الخلاف: لن يشم أنفه الفقه)، وعن هاشم بن عبيد الله الرازي رحمه الله: (من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه) الموافقات 4/161.

وعن الإمام مالك رحمه الله قال: “لا تجوز الفتيا(1) إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه” (جامع بيان العلم لابن عبد البر رحمه الله 2/43).
وقد قيل كذلك في هذا الصدد أن المرء “إذا لم يعرف الخلاف والمأخذ لا يكون فقيها إلا أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون رجلا ناقلا محيطا، حامل فقه إلى غيره، لا قدرة له على تخريج حادث بموجود(2)، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق شاهد بغائب(3)، وما أسرع الخطأ إليه، وأكثر تزاحم الغلط عليه، وأبعد الفقه لديه” (نقلا عن مقدمة دراسة كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك للفندلاوي رحمه الله، دراسة الأستاذ أحمد بن محمد البوشيخي 1/165).
والخلاف(4) الفقهي حده عند أهل الشأن هو: “تغاير أحكام الفقهاء في مسائل الفروع سواء كان ذلك على وجه التقابل، كأن يقول بعضهم في حكم مسألة ما بالجواز، ويقول البعض الآخر فيها بالمنع، أو كان على وجه دون ذلك، كأن يقول أحدهم حكم هذه المسألة الوجوب، ويقول غيره حكمها الندب أو الإباحة” مقدمة دراسة كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك 1/104.
وليعلم أن الخلاف بين الفقهاء قد يقع بين المذاهب، وهو المعبر عنه بالخلاف الكبير، أو التعليق الكبير، أو الخلافيات، أو الخلاف العالي، أو الفقه المقارن كما في اصطلاح كثير من أهل العلم، وقد يقع هذا الخلاف داخل المذهب الواحد، وهو المعبر عنه بالخلاف المذهبي، أو الصغير، ومن هذه المذاهب المعتبرة التي جرى بين أصحابها هذا الخلاف الأخير: المذهب المالكي، حيث بسط علماؤه ذلك كثيرا إما ضمن كتبهم الفقهية، أو في تآليف خاصة مفردة، فالمذهب المالكي غني بأقوال إمامه، واجتهادات أصحابه.
حكى البقاعي رحمه الله عن شرف الدين يحيى الكندي المالكي رحمه الله أنه سئل: “ما لمذهبكم كثير الخلاف؟ قال: لكثرة نظاره في زمن إمامه” (نيل الابتهاج للتنبكتي رحمه الله 358، وانظر نظم العقيان في أعيان الأعيان للسيوطي رحمه الله 177، والاختلاف الفقهي في المذهب المالكي 6، والمدخل المفصل للشيخ بكر رحمه الله 1/15-16).
ولا عجب فقد نقل عن الإمام مالك رحمه الله إلى العراق نحو سبعين ألف مسألة، فاختلف الناس في مذهبه، لاختلاف نشرها في الآفاق.
قال شيوخ البغداديين: هذا غير ما زاد علينا أهل الحجاز ومصر والمغرب.
(أنظرالمعيار للونشريسي المالكي رحمه الله 1/211، وانظر الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي 6-7، والمدخل المفصل للشيخ بكر رحمه الله 1/16).
ومن المؤلفات في الخلاف المذهبي المالكي ضمن الكتب الفقهية أو في كتب خاصة بذلك ما يأتي: اختلاف ابن القاسم وأشهب ليحيى بن عمر الكناني رحمه الله، والمبسوطة في اختلاف أصحاب مالك وأقواله ليحيى بن إسحاق بن يحيى الليثي الأندلسي رحمه الله، والاتفاق والاختلاف في مذهب مالك لمحمد بن الحارث الخشني رحمه الله، واختلاف أقوال مالك وأصحابه لأبي عمر بن عبد البر رحمه الله، ومسائل الخلاف لمحمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير رحمه الله، وبالعنوان نفسه لمحمد بن أحمد المعروف بابن الوراق رحمه الله، والمعتمد في الخلاف لأبي سعيد أحمد القزويني رحمه الله، والتعليقة على مسائل الخلاف لأبي بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله، والإنصاف في مسائل الخلاف لمحمد بن عبد الله بن العربي رحمه الله، الخلاف العالي في المذهب المالكي تاريخه واتجاهاته المنهجية(5) لمحمد العلمي، ودليل الرفاق على شمس الاتفاق(6) لماء العينين الشنقيطي، والإشراف على نكت الخلاف للقاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله، قال عن هذا الكتاب ابن خلدون رحمه الله في المقدمة 1/259: “جمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر، فاشتمل على جميع أقوال المذاهب، وفروع الأمهات كلها في هذا الكتاب”.
وشرح التلقين للمازري المالكي رحمه الله، قال عنه محققه الشيخ محمد المختار السلامي: “كتاب شرح التلقين كتاب مفرد في طريقته، نوه به أهل عصره وعرف بمنزلته في الفقه المالكي حذاق المذهب وأئمته” 1/5-6.
وعيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار لعلي بن عمر بن أحمد البغدادي المالكي المعروف بابن القصار رحمه الله، قال عنه ابن فرحون المالكي رحمه الله: “لا يعرف للمالكيين كتاب في الخلاف أكبر منه” (الديباج المذهب 2/100، وانظر اصطلاح المذهب عند المالكية 250).
إذن لا مناص لمن أراد تحقيق الأقوال في المذهب الواحد من معرفة الخلاف فيه، فالجاهل بذلك لا يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، ولا يؤمن عليه أن يفرض الخلاف في محل الوفاق، فيخرق الاتفاق في ذلك المذهب، أو يفرض الوفاق في محل النزاع، فيضيق كثيرا مما حقه الاتساع.
يقول الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “نقل الخلاف في مسألة لا اختلاف فيها في الحقيقة: خطأ، كما أن نقل الاتفاق في موضع الخلاف: لا يصح” الموافقات 4/214.
ومما لا شك فيه أن معرفة الخلاف في المذهب خاصة، يعين الناظر على الكشف عن الحق فيه، وفحص أساليب الاستدلال، لأن الذي ينظر إلى الأمر من كل وجوهه يكون أقدر على الحكم فيه بالصواب أو الخطأ.
وللبحث بقية..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قال يحيى بن سلام رحمه الله: “لا ينبغي لمن لا يعلم الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعرف الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي” انظر الموافقات 4/105.
2. بعكس العارف بالخلاف فإنه يترشح أن يكون “جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له” الموافقات للشاطبي رحمه الله 4/160.
3. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “من لم يعرف مواضع الاختلاف لم يبلغ درجة الاجتهاد” الموافقات 4/160.
4. مع خُلْف حاصل بين أهل العلم في معنى هذا المصطلح ومصطلح الاختلاف، ولا يعدوا الأمر أن يكون خلافا لفظيا اصطلاحيا.
5. رسالة دكتوراه دار الحديث الحسنية المغرب عام 2001م.
6. يقع في ثلاثة أجزاء، وهو شرح على منظومة في اختلاف الأئمة في فقه مالك تحقيق أحمد البلعيشمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *