ما دام العلماء والأئمة وسائط للفهم عن الله جل وعلا وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالواجب التثبت والتحري1 فيما ينسب إليهم وينقل عنهم من الأقوال والمذاهب والأحكام، ولذا “فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسلام إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُ بِهَا بَلْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِهَا إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ صِحَّتَهَا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَا يُحْكَى عَنْ الأئمة مَا لا حَقِيقَةَ لَهُ” الفتاوي الكبرى لابن تيمية رحمه الله 6/95، وانظر إعلام الموقعين 3/286.
فكم من الأقوال تنسب إلى العلماء على وجه الغلط والخطأ، ويكثر هذا في حق المشاهير، لاسيما إذا كان من الفقهاء المتبوعين2، ومن هؤلاء الأئمة الأعلام الإمام مالك رحمه الله، فقد وقع من بعض المنتسبين له تجوز عند نقل مذهب عنه في بعض المسائل الفقهية على الخصوص، بل حصل التقول في ذلك، حيث تجد من السهولة بمكان أن يرى الناظر فرعا في كتب المذهب وهو في حقيقته مغلوط فيقول: “مذهب مالك كذا”!، خاصة في مقامات الانتصار، وتكثير الجمع، ومواجهة الخصم.. وهذا الحال مما تتعمده القلوب، وعليه كان من مواطن الإثم.
يقول العلامة ابن الوزير رحمه في معرض ذلك: “وإذا نقلت مذاهبهم فاتق الله في الغلط عليهم، ونسبة ما لم يقولوه إليهم3، واستحضر -عند كتابتك ما يبقى بعدك- قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).
ولا تكتب بكفك غير شيء****يسرك في القيامة أن تراه”
العواصم والقواصم 1/ 186.
فاحذر الغلط على إمامك بأن تنسب إليه ما لم يقله، أو أن تفهم من كلامه ما لم يرده، فنقح، وحقق، ودقق، وصحح، وإياك والاعتساف إذا كنت صاحب عدل وورع وإنصاف، فإن المغالطة نوع من أنواع الانحراف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “المنحرفون من أتباع الأئمة في الأصول والفروع.. انحرافهم أنواع:..الرابع: أن يفهم من كلامه ما لم يرده، أو ينقل عنه ما لم يقله..” الفتاوي 20/ 184_185.
وتنبه إلى أن هذا الكلام لا يعني الطعن على العلماء والأفاضل من الفقهاء في مذهب إمامنا مالك أو في غيره إذا وقع منهم نسبة قول إلى إمامهم غلطا، كما أنه لا يقصد به الجسارة والجرأة عليهم ذلك أن هؤلاء -بخلاف غيرهم كما ذكرنا أعلاه- لا يحصل منهم هذا الأمر إلا على وجه العرض لا بسبب ما في القلب من مرض، ومن تم فلا وسم لهم إذن بالجهالة أبدا، وإنما هو السهو أو الوهم الذي لا يسلم منه أحد، فإنه كما أن الأصل في الفطرة: السلامة، والانحراف طارئ عليها، فكذلك الأصل في العلوم: الصحة، وفي الكتب: الثبوت، والسلامة من الغلط، والوهم، والخطأ، والسهو، والسقط، وعبور النظر، وغيرها من الأمور العارضة.
قال العلامة ابن الوزير رحمه الله في: “الروض الباسم” 1/134: “والسهو غيرُ الجَهْل بلا مِرْيةٍ، وقد يتفق ذلك لكثير من أئمة الفنون كلِّها، في مسائلَ جليَّةٍ يخطئون فيها على سبيل السهو دون الجهل”.
واعلم أن الغلط والخطأ عن الأئمة له أسباب كثيرة4، منها أن البعض يحكي عنهم ما لم يصح أو ينقل عنهم ما فهمه هو عنهم، ليس ما قالوه بألفاظهم، أو ينقل عنهم كلاما خرج على محامل وأسباب معينة فيعمم قولهم، أو ينقل عنهم في مقام المدافعة والمخاصمة مما يخالف المعهود من أقوالهم مما كان ينبغي الإعراض عنه واطراحه إلى غير ذلك.
وهاك بعض الأمثلة التي وقفت عليها من كلام أهل العلم مما نسب على وجه الغلط والخطأ في الفقهيات إلى إمامنا مالك رحمه الله كأنموذج فإن “أمثال هذا كثير جدا في مذهب مالك وغيره” كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان 7/384:
– قال ملا علي القاري رحمه الله: “من نسب إباحة المتعة إلى الإمام مالك فقد أخطأ وأما في الهداية من قوله: وقال مالك رحمه الله هو جائز، فقال ابن الهمام: نسبته إلى مالك غلط ، والله سبحانه وتعالى أعلم” شرح مسند أبي حنيفة 550، وانظر عون المعبود 6/59، و البحر الرائق 3/115، و فتح القدير 6/439.
– في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته 6/646:” ونقل الكاساني5 عن الإمام مالك: أنه يرى الشفعة في السفن؛ لأن السفينة أحد المسكنين، فتجب فيها الشفعة، كما تجب في المسكن الآخر، وهو العقار، لكن هذا لم يصح عن مالك، كما حقق ابن عبد السلام. وبه يتبين أن المذاهب الأربعة متفقة على عدم الشفعة في السفن”.
– قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “والتحقيق: أن عرَنَة ليست من عرفة، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك، من أن وقوفه بعرنة يجزئ، وعليه دم، خلاف التحقيق الذي لا شك فيه، والظاهر أنه لم يصح عن مالك” أضواء البيان 5/179.
– قال شيخ الإسلام رحمه الله: “.. هَؤُلاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ [قَالُوا] بِأَنَّهُ: مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا، وَأَمَّا الأم فَلَهُ فِيهَا قولان، فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيَّيْنِ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ” الفتاوي الكبرى 1/166.
– قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول: بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.
وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه” أضواء البيان 7/ 383.
– في فتاوي السبكي 2/ 208: “..من وقَّفَ وقفا على أولاده ثم أولاد أولاده ومات واحد منهم ينتقل نصيبه إلى أولاده قبل انقراض البطن الأول وهذا لم يقله مالك ولا أحد من العلماء غيره..”.
– قال القاضي عياض رحمه الله: “..وحكى بعض الأصوليين أن مالكاً يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعاً، ووجه قوله بأنه لعله كانوا عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم وهذا ما لم يقله مالك ولا روي عنه” ترتيب المدارك 1/13.
– قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في معرض الكلام عن بعض الأغاليط على الأئمة: “شهرة النسبة إلى مذهب الإمام مالك رحمه الله من القول بالإرسال في الصلاة.
وهذا غلط عليه في فهم عبارة المدونة، وخلاف منصوصه المصرح به في الموطأ القبض.
وقد كشف عن هذا جمع من المالكية وغيرهم6، في مؤلفات مفردة، تقارب ثلاثين كتابا، سوى الأبحاث التابعة في الشروح والمطولات” التعالم 117-118.
وختاما نقول: إذا كان عَزو القول إلى قائل له ارتباط بالقائل وله تبعة وأثر، فإن التوقي من الغلط على إمام من الأئمة المتبوعين خاصة في أقواله ومذاهبه قاعدة قعيدة وأصل مهم، ولذلك قال أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله في كتابه التبصرة في أصول الفقه 517: “إن قول الإنسان: ما نص عليه أو دل عليه بما يجري مجرى النص، وما لم يقله ولم يدل عليه: فلا يحل أن يضاف إليه”.
……………..
1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إن الذي يتصدَّى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال: يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه..” نيل التبر المسبوك للسخاوي رحمه الله 4.
2. وقد ألف في ذلك الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله رسالة لم أقف عليها سماها: “كشف الجلة عن الغلط على الأئمة”، انظر التعالم 117، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/ 120 كلاهما له رحمه الله.
3. ومن أعظم أسباب ذلك الأفهام القاصرة كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في: مدارج السالكين (2/431): “ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة”.
4. انظر بسط عموم ذلك كتاب: “المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ” للشيخ بكر رحمه الله 1/122 فما بعدها.
5. البدائع 5/12، وقال ابن عبد السلام رحمه الله من المالكية: “ما نقله بعض الحنفية عن مالك في السفينة لا يصح” شرح التنوخي لرسالة القيرواني 2/193.
6. من ذلك رسالة: هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب مالك، لمحمد المكي بن عزوز المالكي رحمه الله، ورسالة نصرة القبض والرد على من أنكر مشروعيته في صلاة الفرض، لمحمد بن أحمد المسناوي المالكي رحمه لله، ورسالة الحسام المنتصر المسنون على من قال أن القبض غير مسنون، لأحمد بن محمد بن عمر الخياط المالكي، ورسالة نصرة الرفع والقبض في صلاة النفل والفرض، لمحمد بن أحمد الكانوني العبدي المالكي، و انظر الصوارم والأسنة في الذب عن السنة، للعلامة الشنقيطي رحم الله الجميع.