رجوعه إلى الحق وعدم تعصبه

من عوامل الاختلاف القاتل، والفرقة المدمرة، والتباغض الذي لا يبقي من الود شيئا التعصب لغير الحق، وهو التعصب الممقوت(1)، الذي يمكن تعريفه بأنه: “عدم قبول الحق عند ظهور دليله” قواعد الفقه للبركتي 231.

وهذه الخصلة المذمومة شيمة من شيم الضعف وخلة من خلال الجهل يبتلى بها الإنسان فيعمى بصره وقلبه، فلا يرى حسنا إلا ما حسن في رأيه، ولا صوابا إلا ما ذهب إليه هو أو من تعصب له.
ولذلك كان الأئمة الأعلام ومنهم الإمام مالك رحمه الله يدورون مع الحق والدليل حيث دار، ولا يتعصبون لما بدر منهم من أقوال إذا لاح لهم الخطأ فيها، كل ذلك تقديما للحق وردا للباطل، فإن الحق أبلج، والباطل لجلج.
قال الإمام مالك رحمه الله: “كل الناس يؤخذ منه ويؤخذ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام”.
قال الناظم:
ومالك إمام دار الهجرة *** قال وقد أشار نحو الحجرة
كل كلام منه ذو قبول *** ومنه مردود سوى الرسول
وهذه الكلمة الحكيمة المشهورة عن الإمام رحمه الله أصلها من عبد الله بن عباس رضي الله عنه كما في الفتاوي للسبكي رحمه الله 1/148، وأخذها عن ابن عباس رضي الله عنه مجاهد رحمه الله كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر رحمه الله 1/91، وأخذها عن مجاهد رحمه الله مالك رحمه الله، وإليه نسبت وعنه انتشرت واشتهرت، مما يدل دلالة بينة على ذم الإمام رحمه الله للتعصب، وحرصه على إتباع الحق.
فالتعصب لازمه ادعاء العصمة للنفس أو للغير، ففيه ما فيه من خطل الرأي، ومجانبة الصواب لأن مُؤَداه أن يصير المُتَعَصب له شارعا لا متشرعا وهو باطل.
قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: “فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”: “جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون” إعلام الموقعين 1/7.
وعليه أثر عن مالك رحمه الله في سماع ابن القاسم وابن وهب وأشهب، والمعنى متقارب قوله: “ليس كل ما قال الرجل، وإن كان فاضلا، يتبع، ويجعل السنة، ويذهب به إلى الأمصار، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}” ترتيب المدارك 1/190.
والتعصب كذلك أساسه الجهل والاعتساف، وإتباع الهوى والخروج عن الإنصاف.
ولهذا وصف ابن القيم أهل العلم والعدل بكونهم: “زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهانا” إعلام الموقعين 1/706.
ومن عظيم إنصاف الإمام مالك رحمه الله في هذا الباب أنه لما أراد أبو جعفر المنصور أن يجمع الناس على كتاب الموطأ، قال له الإمام رحمه الله: “يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق لهم إليهم، وعملوا به ودانوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم” ترتيب المدارك 2/72.
وفي مناقب الإمام مالك رحمه الله للشيخ عيسى الزواوي رحمه الله 46: “جاء هارون الرشيد فأراد أن يفعل ما عزم عليه أبو جعفر المنصور، وذلك بتعليق الموطأ في الكعبة، فقال له مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام اختلفوا في الفروع، فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب”.
قال الشيخ عيسى الزواوي رحمه الله: “فانظر انصاف مالك رحمه الله، وصحة دينه، وحسن نظره للمسلمين ونصيحته لأمير المؤمنين، ولو كان غيره من الأغبياء، والعتاة المتعصبين، والحسدة المتدنيين، لظن أن الحق فيما هو عليه، أو مقصور على من ينسب إليه وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة، وأدخل الفساد” نفسه.
وما ذاك إلا لأن سبيل التعصب الضلال عياذا بالله كما قال تعالى: “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ”.
قال الإمام مالك رحمه الله: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه”.
ومن دلائل ذلك ما رواه ابن وهب رحمه الله قال: حدثني عمي قال: “كنت عند مالك، فسئل عن تخليل الأصابع، فلم ير ذلك، فتركت حتى خف المجلس، فقلت: إن عندنا في ذلك سنة: حدثنا الليث..، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا توضأت، خلل أصابع رجليك”، فرأيته بعد ذلك يسأل عنه، فيأمر بتخليل الأصابع، وقال لي: ما سمعت بهذا الحديث قط إلى الآن” سير أعلام النبلاء 9/233.
فتأمل رجوع الإمام رحمه الله إلى الحق في هذه المسألة وعدم تعصبه، حتى قال الإمام القرطبي رحمه الله: “وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب..” الجامع لأحكام القرآن 6/97.
فالحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين إذا لاح لك الحق المبين، واسلك سبيل أئمة الدين الموقعين عن رب العالمين، وعلى رأسهم إمام مدينة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، (فإن التعصب مذهب للإخلاص، مزيل لبهجة العلم، معم للحقائق، فاتح باب الحقد والخصام الضار، كما أن الإنصاف هو زينة العلم، وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح) الفتاوى السعدية 459.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- لأن التعصب للحق والصواب تعصب محمود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *