المعالم العامة لمنهجية الإمام مالك في العلم والفقه والفتيا “مراعاة الدليل والرواية مع الفقه والدراية”

مما غفل عنه بعض الناس في باب العلم والفقه -مع حرصهم على الحجة والدليل- عدم اعتنائهم بفهم الدليل والتفقه في المراد منه شرعا، فتجد الواحد منهم يحتج عليك بالدليل دون دراية ولا فقه فيه، وهذه مزلَّة قدم.

قال ابن القيم رحمه الله: “تجريد المتابعة (أي: للنبي عليه الصلاة والسلام) أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان، بل تنظر في صحة الحديث أولا فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا” الروح 264.
إذن فمما لا بد منه في مسالك الفقه والتفقه -للخلوص لحكم شرعي صحيح- الاعتناء بفهم الأدلة الشرعية والحذر من الاكتفاء عند الاحتجاج بمجرد التجمل بالدليل، ورفع شعاره دون فقه فيه، ولا مراعاة للمقاصد الشرعية، والقواعد المرعية، وضبط ذلك بفهم سلف الأمة، مع الحرص على جمع الأدلة في الباب، فـ”الإعمال خير من الإهمال”، فحقيقة الدليل في المسألة جمع أطرافها، كما قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات 3/90: “فالعام مع خاصه هو الدليل”، وعلى هذا جرى عمل علماء المسلمين.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر” جامع بيان العلم 2/124.
ومن هؤلاء العلماء الأعلام الإمام مالك رحمه الله كما هو واضح في كتابه الموطأ، حيث جمع فيه بين التثبت في الرواية مع التفقه فيها والدراية.
قال الشافعي رحمه الله: “كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله” التمهيد 1/63 وغيره.
وموجبات الشك على مقتضى الصناعة الحديثية كثيرة، ومنها: الغريب، انظر “سلفية الإمام مالك، ص:158”.
وكان مالك رحمه الله يقول كذلك: “ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله في القلوب يفرق به الإنسان بين الحق والباطل(1)”. أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك” 24.
فبهذه الكلمة خط الإمام منهجه في العلم، وعليها بنى صنيعه في كتابه، حيث جعله قليلا من كثير، وهذا القليل الذي أثبته وحدث به وأشاعه في الناس من الكثير الذي رواه وحفظه وكتبه، ثم تركه فلم يحدث به ولم يعتمده لموجب علمي في نظره.
هذا مع مراعاة التفقه والدراية فقد بوب مالك كتابه الموطأ على أبواب بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم وآدابهم، وجعل فقهه للأحاديث والآثار في هذه التراجم مراعيا الجمع بين المتعارضين، والترجيح بين الخبرين..
ومما ذكره بعضهم ناظما صنيع الإمام مالك في موطئه:
وبالتراجم لفقه الباب—-يشير توضيحا لكل باب
وتلك عادة المحدثين في—-مصنفاتهم بنهج اصطفي
ولأجله قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: “الموطأ هو أول كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره لأنه لم يؤلَّف مثله، إذ بناه مالك رضي الله عنه على تمهيد الأصول للفروع..” القبس 1/75.

شبهة والجواب عنها
قيل أن الإمام مالك رحمه الله كان يتعمد ترك الحديث إذا خالف مذهبه، وآية ذلك أنه روى في الموطأ أحاديث ولم ير العمل بها.
والجواب عن ذلك أن نقول: لا شك أن مالكا لم يأخذ ببعض الأحاديث، لكن ليس ذلك على سبيل التعمد لتركها، فإن مالكا رحمه الله أجل من هذا وأنبل، ووصيته في التزام السنة مشهورة، وإنما يترك الحديث إذا ظهر له معارض علمي صحيح في نظره.
وهذا هو المقصود من الأثر كما في ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله 2/427: “قال ابن وهب: لو لا أن الله أنقدني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي: خذ هذا، ودع هذا”.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد، سقطت عدالته، فضلا عن أن يتخذ إماما ولزِمَه إثم الفسق..” جامع بيان العلم وفضله2/148.
ولأجله استُنكِر قديما وحديثا موقف المحدث ابن أبي ذئب المدني من مالك رحمهما الله، حيث لم يعمل بظاهر الحديث الصحيح الذي أخرجه في موطئه وهو: قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا..” متفق عليه.
فأنكر ابن أبي ذئب على مالك وشدد النكير عليه، حتى روي عنه أنه قال: “يستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه” العلل للإمام أحمد1/193 وغيره.
قال الذهبي رحمه الله عند هذه الواقعة: “..فمالكٌ إنما لم يعمل بظاهر الحديث، لأنه رآه منسوخا. وقيل: عمل به، وحمل قوله: “حتى يتفرقا” على التلفظ بالإيجاب والقبول..” السير 7/143.
فالقصد إذن أن نبين أن مالكا رحمه حاشاه أن يتعمد ترك حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وإنما قد يتعارض بعض ذلك عنده بما هو أقوى شرعا في نظره، هذا مع أنه رحمه قد يخطأ ويصيب، فإذا ظهر وبان الخطأ فالحق الأبلج في اتباع الدليل، فلا يصح بحال أن ترد الأحاديث بالمذاهب فتنبه.
قال أحد محققي المالكية المتأخرين، وهو العلامة أبو عبد الله المقري في قواعده 2/396-397: “لا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص بهجتها، ويذهب الثقة بظاهرها، فإن ذلك إفساد لها، وغض من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد، إلا ما صح عن محمد صلى الله عليه وسلم، بل لا يجوز الرد مطلقا، لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال الشافعي، لا أن ترد هي إلى المذاهب.. لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ.. وهذا تعظيم للمقلدين بتحقير الدين، وإيثار الهوى على الهدى”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – وذلك بشرط الإتباع والبعد عن الهوى والابتداع، قال الإمام الذهبي رحمه الله:” العلم ليس هو بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الإتباع، والفرار من الهوى والابتداع” السير13/323.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *