مما هو معلوم عند أهل التحقيق والنظر الدقيق أن المذاهب الفقهية لم تُقَمْ إلا للتضلع من الفقه، والتَزيُّد من المعرفة فيه بتشقيق المسائل، وبتفريع الدلائل، وبحصر مسائل كل باب، وبترتيب الأبواب ترتيباً تُفهم به المسائل والفقه عموماً، وعليه فالمذهبية الصحيحة لا تعدوا أن تكون سلما للتفقه لا غاية، فالأمر إذن هو من باب التراتيب العلمية لا غير، فالتمذهب المقصود هو هذا المعنى المورود، حتى يَسْلم المتفقه من التعصب المردود.
ولقد آلت المذاهب الفقهية إلى مذاهب أربعة متبعة لأئمة متفق على جلالتهم وعلمهم وتقواهم حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فيجب على المسلمين -بعد موالاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن. خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
إذ كل أمة -قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم- فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا؛ وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا” (رفع الملام؛ ص:10).
والمحققون من أهل العلم المليح والتصور الصحيح يرون أن مذاهب أئمتنا بعد تحرير الأقوال المعزوة إليها وبيان الصحيح منها من الضعيف والشاذ فهي على موافقة مجملة فيما بينها لا مخالفة، وما يوجد من خلافات ولو كانت في بعض القواعد والأصول لا تضر في ذلكم التوافق العام، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: “وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه” (رفع الملام 10-11).
فسلفنا من الأئمة الفقهاء، والعلماء الأجلاء بذلوا جهودا علمية عظيمة في خدمة فقه الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة؛ أصَّلوا وقعَّدوا واستنبطوا وخرَّجوا، وشرحوا واختصروا، ويأبى الله لهذه السلسلة إلا أن تتوالى دررها، وتتلألأ أنوارها وتتفرع أغصانها وتتكاثر أفنانها، ولذلك أشرنا إلى أن المذاهب الفقهية المتبعة هي على وجه الإجمال والعموم ليست إلا مذهبا واحدا متفرعا، وكيف لا وهي كلها نابعة من عين واحدة هي عين شريعته صلى الله عليه وسلم المطهرة، ومتفرعة من أغصان شجرتها الطيبة المثمرة، لكنه ربما اشتهر وقوي عند عالم ما لم يشتهر عند آخر ولم يقو، ومن أطال يده بالنظر الدقيق في قواعد المذاهب وأصولها وفروعها بعد تحريرها ظهر له ذلك.
ألا فاقرأ قواعد ذي المذاهب ورم أصلا به تزهو المكاتب
ترى كل المذاهب في وفاق كأغصان بأصل ذي تعاقب
ولذا في الغالب تجد الصواب والحق لا يخرج عن المذاهب الأربعة المتبعة1 كما أشار إليه الإمام الذهبي رحمه الله عند قوله: “قال إسحاق بن راهويه: (إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة).
قلت: بل السنة ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده. والإجماع2: هو ما أجمعت عليه علماء الأمة قديما وحديثا إجماعا ظنيا أو سكوتيا، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده احتمل له.
فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة، فلا يسمى مخالفا للإجماع، ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق: أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبا، كما نقول اليوم: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها” (السير 7/116-117).
وعليه كانت المذاهب الفقهية رحمة من عند الله ومنة ووجه في هذا المقام ما بينه الحافظ ابن رجب رحمه الله حيث قال: “فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصَّب للناس أئمة مجتمعا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى..، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم حتى ضبط مذهب كل إمام..
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين” (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة 24-25).
ولا يلزم من هذا الطرح الأصيل التعصب للأئمة عند ظهور الحق والدليل.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: “قال مالكي: قد ندَر الاجتهادَ اليوم وتعذَّر فمالك أفضل من يقلد، فرجح تقليده.
وقال شيخ: إن الإمام لمن التزم بتقليده، كالنبي مع أمته لا تحل مخالفته.
قلت: قوله لا تحل مخالفته: مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه، عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص المذاهب، وزلات المجتهدين، فقد رق دينه، كما قال الأوزاعي أو غيره: من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر.
وكذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسع فيه، وشبه ذلك، فقد تعرض للانحلال، فنسأل الله العافية والتوفيق” (السير 8/90).
قال بعضهم:
ومالك وأحمد والشافعي أبو حنيفة الإمام التابعي
على هدى من ربهم ورحمة والاختلاف رحمة للأمة
وعلق بعض أهل العلم على هذا فقال:
لا اختلاف المتعصبة فيهم، فقد أساؤوا إليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. والإجماع الذي حكي في خصوص أن الحق لا يخرج ألبتة عن المذاهب الأربعة فيه مطعن إذ الخلاف جار في ذلك، فالحق ليس محصوراً في المذاهب الأربعة، بل الحق يدور مع الدليل ما دام أن هناك قائلاً من السلف الصالح على وجه محفوظ قد قاله من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وغيرهم ممن يُعَوَّل على فقههم.
2. قال أبو المُظفَّر السَّمعاني رحمه الله: “..إجماعهم على قولين إجماعٌ على تحريم ما عداهما. فلمَّا لم يجز خلاف الإجماع في القول الواحد؛ لأنَّه يتضمَّن تحريم ما عداه. فكذلك لا يجوز خلاف إجماعهم على القولين؛ لإجماعهم على تحريم ما عداهما. يدلُّ عليه: أنَّه قد ثبت أنَّ الحقَّ لا يخْرج عن الإجماع؛ فلو جاز إحْداث قولٍ ثالثٍ لم يعتقدوه، لخرج الحقُّ من أقوالهم؛ لأنَّا إذا جوَّزنا ذلك: فيجوز أن يكون الحقُّ في القول الثالث، وفي هذا إبطال الإجماع” قواطع الأدلة 3/266.