تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك الحلقة التاسعة عشر خبر الآحاد عند المالكية رشيد مومن الإدريسي

من المقرر عند أهل العلم أن الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار وصوله إلينا ينقسم إلى قسمين عند الجماهير ومنهم السادة المالكية وهما: المتواتر والآحاد.
قال الناظم:

ثم الصحيح منه ما تواترا     ومنه آحاد بصحة جرى

تنوير العقول في نظم مفتاح الوصول 35.
والذي سنتناوله بالحديث هذا الأخير؛ فنقول وبالله التوفيق ومنه العون والتحقيق:
من الأصول التي بنى عليها الإمام مالك رحمه الله مذهبه الاحتجاج بخبر الآحاد كما قال أحمد بن أبي كف الشنقيطي رحمه الله في نظمه:

وخبر الواحد حجة لديه       بعض فروع الفقه تنبني عليه

والمعنى “أن الخبر أي: الحديث والفعل والتقرير الذي رواه واحد عدل فطن مأمون ثقة، أو من في حكمه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حجة شرعية عند مالك، بنى عليه بعض فروع الفقه في مذهبه” إيصال السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 57.
وقال ابن القصار رحمه الله: “ومذهب مالك رحمه الله قبول خبر الواحد العدل، وأنه يوجب العمل دون القطع على عينه؛ وبه قال جميع الفقهاء، وقد احتج بذلك في المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا؛ وكذلك في غسل الإناء من ولوغ الكلب وفي مواضع كثيرة.
والدليل على وجوب العمل به: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاء فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فدلَّ على أن العدل لا يثبت في خبره، إذ لو كان الفاسق والعدل سواء لم يكن لتخصيص الفاسق بالذكر فائدة” المقدمة في أصول الفقه 11.
ومفهوم خبر الواحد أو الآحاد لغة هو: “من أحد كبطل مفرد أبطال، وآحاد أصلها أأحاد والهمزة مبدلة من الواو” المصباح المنير 1/13.
واصطلاحا: “ما لم ينته من الأخبار إلى حد التواتر مما رواه واحد فما علا” انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي رحمه الله 356.
وعلى هذا التعريف ينقسم خبر الواحد إلى ثلاثة أقسام:
– الغريب: ما رواه راو واحد في أي طبقة من طبقات السند.
– العزيز: ما رواه اثنان فقط في أي طبقة من الطبقات.
– المشهور: ما رواه ثلاثة فأكثر (دون بلوغ حد التواتر) من أي طبقة من الطبقات.
مع العلم أن المستفيض هو المشهور عند الجماهير، ويدخل الخبر المستفيض، أو السنة المشهورة في خبر الواحد عند المالكية خاصة إذ عندهم خبر الواحد على قسمين مستفيض وغير مستفيض؛ بخلاف الحنفية فهو مرحلة وسطى بين المتواتر وخبر الواحد.
وقد حُدِّد المستفيض بما زاد على الثلاثة، أو على الاثنين، وقيل على الواحد والمسألة اصطلاحية كما هو واضح من جهة كون كل ذلك يدخل في خبر الآحاد.
وقد ذكر صاحب مراقي السعود الخلاف حول هذا التحديد بقوله:

والمستفيض منه وهو أربعة        أقله وبعضهم قد رفعه
عن واحد وبعضهم عما يلي        وجعله واسطة قول جلي

وخبر الواحد العدل يفيد غلبة الظن، ولا يفيد القطع بالإطلاق.
قال ابن القصار رحمه الله: “وإنما لم يقطع على غيبه، لأن العلم لا يحصل من جهته، إذ لو حصل من جهته العلم لوجب أن يستوي فيه كل من سمعه كما يستوون في العلم بمخبر خبر التواتر، فلما كنا نجد أنفسنا غير عالمين بصحة مخبره دل على أنه لا يقطع على مغيبه، وأنه بخلاف خبر التواتر، وصار خبر الواحد بمنزلة الشاهد الذي قد أمرنا بقبول شهادته، وإن كنا لا نقطع على صدقه” المقدمة في أصول الفقه 11.
وقد ذهب ابن خويز منداد من المالكية إلى أن خبر الواحد العدل يفيد العلم، واختار ابن الحاجب قوله وقيده بما إذا احتفت به قرينة منفصلة زائدة على العدالة مثل ما أخرجه الشيخان، أو أحدهما لما احتف به من القرائن، منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول. انظر إيصال السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 57-58.
قال صاحب المراقي في خصوص ذلك:

ولا يفيد العلم بالإطلاق       عند الجماهير من الحذاق
وبعضهم يفيد إن عدل روى      واختير ذا إن القرينة احتوى

ويصح التعبد بخبر الواحد العدل عقلا ونقلا وهذا قول الجماهير.
أما عقلا: فلأنه ليس محالا لذاته وهو أمارة الجواز العقلي، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الناس كافة، ومعلوم أنه لا يمكن أن يشافههم جميعا فتعين نقل الآحاد والعمل بهذه المنقولات عقلا، كما أنه إذا ترجح صدق الراوي فيترجح العمل بمقتضى هذا الظن، إذ هو الاحتياط قطعا، إضافة إلى أنه لو قصد العمل بالقطعيات فقط لتعطلت الأحكام الشرعية، لقلة مدارك القطع واليقين فيها.
أما نقلا: فلإجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والعمل به في فروع كثيرة، ولما تواتر من إرسال النبي عليه الصلاة والسلام رسله بأحكام وأقضيات إلى أطراف البلدان، وفي هذا عمل بأخبار الآحاد والاحتجاج بها، إضافة إلى الإجماع على قبول قول المفتي فيما يخبر به من أمور اجتهادية، فأولى منه قبول قول العدل فيما يخبر به وينقله والعمل بمقتضاه. انظر شرح مرتقى الوصول إلى علم الأصول لفخر الدين بن الزبير ص: 613 فما بعدها.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في المرتقى:

وخبر الواحد ظنا حصلا       وهو بنقل واحد فما علا
وما روى عدل يصح عقلا      تعبد به وصح نقلا

وللاحتجاج بخبر الواحد جملة من الشروط وهي كالآتي:
– أن يكون من رواه مميزا حال السماع.
– أن يكون المحدث بالخبر فاهما أي عاقلا فلا تقبل رواية المجنون.
– أن يكون عدلا فلا تقبل رواية الفاسق ولا المجهول.
– أن يكون بالغا حال الأداء، وأما السماع فالجمهور على صحة سماعه ما دام مميزا.
– أن يكون مسلما، والصحيح أنه شرط في الأداء لا التحمل فتنبه.
قال ابن عاصم المالكي  رحمه الله في نظم المرتقى عن خبر الواحد:

وهو لأهل العلم أصل معتمد      على شروط فيه عنهم تعتمد
وإن منها أن يكون قد روى         مميزا حال السماع لا سوى
ومن يحدث شرطه الإفهام          والعدل والبلوغ والإسلام

وخبر الواحد حجة في مسائل الشرع(1) كالشهادة والفتوى وحكم الحاكم، وفي الأمور الدنيوية كإخبار الطبيب بمنفعة دواء معين، أو إخبار إنسان بسلوك طريق آمن، أو بصلاحية غذاء من الأغذية ونحو ذلك.
قال صاحب مراقي السعود في ذلك:

وفي الشهادة وفي الفتوى العمل       به وجوبا اتفاقا قد حصل
كذاك جاء في اتخاذ الأدوية          ونحوها كسفر والأغذية

ومن المباحث المتعلقة بخبر الآحاد عند المالكية تعارض خبر الآحاد مع عمل أهل المدينة، ومع القياس وقد مر معنا في مباحث سبقت إيضاح ذلك بحمد الله تعالى.

1- ورد الاحتجاج بخبر الواحد الثابت الذي لم تحتف به قرائن تجعله يفيد القطع في باب العقيدة ليس من طرائق السلف بل هو من بدع الخلف، وبسط ذلك في غير هذا المحل والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *