تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة الخامسة عشرة- قـول الصحابي رضي الله عنه رشيد مومن الإدريسي

مما هو معلوم في تاريخ التشريع الإسلامي أن الصحابي1 هو المباشر للنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حضر التنزيل، وشاهد الوحي، وسمع الشرع من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو أعلم بمراده من كلامه، وأدرى الناس بمقاصد الشريعة من سواه، وأعرفهم بالدلائل الحالية والمقالية التي تخول له موافقة الصواب أكثر من غيره، إضافة إلى سليقة لغته العربية.

كل ذلك يجعل لرأيه في الدين ومذهبه وفتواه القوة في الحجية، ولذا اعتبر الإمام مالك رحمه الله قوله حجة.
يقول أبو كف المحجوبي الشنقيطي في نظمه مقررا حجية قول الصحابي عند الإمام مالك رحمه الله:
وقول صحبه والاستحسان وهو اقتفاء ما له رجحان
ومن الدلائل على حجيته عند مالك رحمه الله رسالته إلى الليث بن سعد رحمه الله حيث احتج عليه فيها بذلك، وهذا ما قصده الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 4/123 عند بيانه للأدلة على أن اتباع الصحابة واجب حيث قال: “فأما الأول فمن وجوه أحدها ما احتج به مالك وهو قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم( فوجه الدلالة أن الله أثنى على من اتبعهم ..”.
كما يدل على احتجاجه رحمه الله بقول الصحابي ما أورده من فتاوي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في كتابه الموطأ.
وعليه فالقول المروي الثابت عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من أصول مالك رحمه الله في الاحتجاج والاستدلال سواء كان الصحابي إماما أو مفتيا أو حاكما، وسواء كان قولا أو فعلا.
والمراد بقول الصحابي وأنه حجة عند مالك رحمه الله رأيه الصادر عن اجتهاد إذا انتشر ولم يظهر له مخالف فهو إجماع سكوتي.
كما يحتج مالك بقول الصحابي الصادر عن اجتهاد وإن لم يشتهر بقيد عدم المخالفة لظواهر النصوص فتنبه. انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي رحمه الله 445.
وفي ذلك قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 652- مع شرحه:
والقول إن يُروَ عن الصحابة *** دون مخالف يرى اجتنابه
إن كان عندهم من المنتشر *** فهو بالإجماع السكوتي حري
أو كان لم يَذِعْ فإن مالكا *** يراه حجة فخذ بذلكا
ومنه فإن قول الصحابي الذي لا مدخل للاجتهاد فيه فهو حجة بلا إشكال لأن له حكم الرفع؛ فتأمل 2.
كما أن قوله الصادر عن اجتهاد خالفه فيه غيره من الصحابة فليس بحجة فتنبه3.
وقد لخص عموم ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي المالكي رحمه الله حيث قال: “قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع كما تقرر في علم الحديث، فيقدم على القياس، ويخص به النص، إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائليات.
وإن كان مما للرأي فيه مجال؛ فإن انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف فهو الإجماع السكوتي، وهو حجة عند الأكثر.
وإن علم له مخالف من الصحابة فلا يجوز العمل بقول أحدهم إلا بترجيح بالنظر في الأدلة.. 4.
وإن لم ينشر فقيل: حجة على التابعي ومن بعده، لأن الصحابي حضر التنزيل فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال، وقيل ليس بحجة على المجتهد التابعي مثلا، لأن كليهما مجتهد يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب، والأول أظهر” مذكرة أصول الفقه ص: 165 فما بعدها.
قال صاحب المراقي ص: 103 ناظما رحمه الله:
رأي الصحابي على الأصحاب لا *** يكون حجة بوفق من خلا
في غيره ثالثها5 إن انتشر *** وما مخالف له قط ظهر
وقال ابن عاصم رحمه الله في المرتقى 651 مع شرحه:
وليس حجة على الصحابي *** مذهب غيره من الأصحاب
واختير أن يعم ذا الحكم البشر *** وقيل قول العمرين6 يعتبر.
وعموما فإن لقول الصحابي المكانة العلية في باب الاحتجاج عند الجماهير ومنهم الإمام مالك رحمه الله، ولذا السلف والخلف من التابعين ومن جاء بعدهم يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتد بهم فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم، قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة، وما ذلك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم في الشريعة، وأنهم مما يجب متابعتهم، وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه 7.
فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم في مقدمة الأمة، فلهم من النبي عليه الصلاة والسلام وفضله وتكريم الله له النصيب الأكبر، فإن فضلهم ليس لذواتهم ولا لحسبهم ونسبهم وإنما بسبب اصطفائهم لصحبه نبيهم عليه الصلاة والسلام، وصدق متابعتهم له، فعجبا لمن يطعن فيهم؛ أو يتنكب طريقهم؛ أو يسفه أفهامهم!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. التعريف الواسع لمعنى الصحابي، والمعتمد عليه هو المعروف عند المحدثين، وقد قال فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله: “من لقي النبي عليه الصلاة والسلام مؤمنا به ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح” انظر نزهة النظر 69.
2. يقول العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “قول الصحابي فيما لا يقال بالرأي هو من قبيل المرفوع فهو داخل في السنة” رسائل الإصلاح 2/121.
3. قال ابن الحاجب رحمه الله: “الاتفاق على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على صحابي إماما كان أو مفتيا” منتهى الوصول والأمل 206.
4. قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله عند شرحه حديث “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين..”: “أمر بالرجوع إلى سنة الخلفاء، وهو يكون على أمرين:
الأول: التقليد لمن عجز عن النظر.
الثاني: الترجيح عن اختلاف الصحابة، فيقدم فيه الخلفاء الأربعة وأبو بكر وعمر، وإلى هذه النزعة كان ينزع مالك، ونبه عليه في الموطأ” عارضة الأحوذي.
5. يشير الناظم إلى أن مذهب الصحابي بالنسبة للمجتهدين من التابعين فمن بعدهم كونه حجة فيه ثلاثة أقوال.
أولها: أنه حجة عليه مطلقا.
ثانيها: أنه ليس بحجة مطلقا.
ثالثها: وهو ما ذكره في نظمه.
انظر مدارج الصعود إلى مراقي السعود 425.
6. أي: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والمعنى أن قولهما مقدم عند الخلاف على غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم. انظر البرهان 2/1362.
7. انظر الموافقات للإمام الشاطبي رحمه الله 4/77.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *