خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث الجمع بين أدلة الباب أو المسألة -الحلقة العاشرة-

مما هو مقرر في الشريعة الغراء، ومعلوم عند العلماء، أن نصوص الكتاب والسنة يجب الإيمان بها جميعا دون التفريق بينها مصداقا لقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بالسند الصحيح مرفوعا: “إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه”.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو؛ ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى” درء التعارض 8/404.
وعليه فالواجب الإيمان بالنصوص -بعد معرفة صحتها- إيمانا عاما مجملا1، من غير أن يشترط فهم معانيها، أو إدراك حقيقتها أو سلامتها من المعارض العقلي كما يقوله أرباب الكلام من العقلانيين والعلمانيين وغيرهم، أو موافقته للذوق والكشف كما يدعيه غلاة المتصوفة، أو عرضه على القياس كما جنح إليه بعض المتأخرين من الفقهاء!! أو تقديم السياسات عليها والتجارب كما هو حال كثير من أرباب الرياسات!! وهكذا دواليك.
ولذا فمن المحال أن تتعارض حقيقة2 نصوص الكتاب مع نصوص السنة، لأنهما وحي من عند الله تعالى، فمن المعلوم في الشريعة أنك “لا تجد دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن قد يقع التعارض في فهم الناظرين3” الموافقات 4/294.
ولأبي حامد الغزالي رحمه الله كلمة بديعة في هذا المقام حيث يقول: “اعلم أن التعارض هو التناقض، فإن كان في خبرين، فأحدهما كذب، والكذب محال على الله ورسوله، وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة، فالجمع تكليف محال، فإما أن يكون أحدهما كذبا، أو يكون متأخرا ناسخا، أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين” المستصفى 2/395.
وصدق من قال: “لا أعرف حديثين صحيحين متضادين فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني لأؤلف بينهما”4.
ولذلك كان من منهج أهل السنة والحديث الجمع بين أدلة الباب إلا إذا تحقق النسخ5 فـ”لا تُضرب سنن رسول الله عليه الصلاة والسلام بعضها ببعض، بل يستعمل كل منه في موضعه” تهذيب السنن 3/114.
ومن القواعد المقررة في ذلك قول أهل العلم والعرفان: “الإعمال خير من الإهمال”6.
قال الناظم:
وللكلام يا فتى الإعمال أولى من الإهمال فيما قالوا
متن الفرائد البهية ص:39.
فالجمع والتوفيق بين الأدلة المتعارضة ظاهرا هو الطريق لإعمال الدليلين المتعارضين أصالة في الباب الواحد، ومن غفل عن ذلك أو تنكبه لن يظفر بمجمل فقهه ولا بحقيقة فهمه فـ”الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه”7، “والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا”8.
ومعنى الجمع بين الأدلة في الاصطلاح بمعناه العام: “بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة الشرعية” انظر التعارض والترجيح للبرزنجي 1/212.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله ويجمع بين الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله، فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون ويجب تلقيه وقبوله وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم” الفتاوي 27/316.
ومن أهم صور الجمع بين الأدلة الشرعية رد النصوص المتشابهة إلى النصوص المحكمة مصداقا لقوله تعالى “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب”.
قال العلامة السعدي رحمه الله عند هذه الآية: “فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا، ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة” تيسير الكريم الرحمن 122.
ولو تأمل المتفقه في أسباب من ضل من أهل الأهواء قديما وحديثا لعلم أنه من أعظم ذلك ردهم للنصوص المحكمة وأخذهم بالأدلة المتشابهة!!
وليعلم أنه “من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد صار واضحا” الاعتصام 1/246.
ولأجله حذر العلماء من الوقوع في قصور النظر في تتبع روايات الحديث نفسه، أو في بابه، فإنه من مهمات من يريد الوقوف على المراد من الحديث أن يجمع روايات الحديث الواحد الذي يريد تفسيره وبيان معناه، بل وأن يتتبع الأحاديث التي في بابه، فإن تقصيره في ذلك يوقعه في سوء فهم للحديث الذي يريد شرحه وبيانه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إن المتعين على من يتكلم على الأحاديث: أن يجمع طرقها، ثم يجمع ألفاظ المتون، إذا صحت الطرق، ويشرحها على أنه حديث واحد، فإن الحديث أولى ما فسر بالحديث9” فتح الباري 1/475.
………………………
1. أما الإيمان المفصل فهو خاص بكل من قامت عنده الأدلة، وبان له المدلول، وظهرت معانيها، فإذا حصل ذلك عند المرء صار الإيمان في حقه فرضا متعينا، وإلا فالأصل فيه أنه كفائي، كما قال شارح الطحاوية رحمه الله ص:4: “ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية”.
2. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “والتعارض الحقيقي لا يقع بين النصوص الشرعية قطعية كانت أو ظنية لأن الشريعة الواحدة الصادرة عن المعصوم لا تقبل التعارض” الموافقات 4/118.
3. فما يظهر للناظر من تعارض بين بعض النصوص فهو تعارض ظاهري يقع في نفس المجتهد وفهمه، ولا حقيقة له في نفس الأمر وذلك لنقص في العلم أو الفهم أو فيهما معا.
4. قالها الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله انظر شرح الكوكب المنير 428.
5. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إن نصوص رسول الله عليه الصلاة والسلام كلها حق يصدق بعضها بعضا ولا يترك له نص إلا بنص آخر ناسخ له” إعلام الموقعين 1/327.
6. انظر في خصوص هذه القاعدة كتاب القاعدة الكلية: إعمال الكلام أولى من إهماله وأثرها في الأصول الفصل الثامن: أثر القاعدة الكلية في التعارض والترجيح.
7. قاله علي بن المديني رحمه الله كما في الجامع للخطيب رحمه الله 2/212.
8. قاله الإمام أحمد رحمه الله كما في الجامع للخطيب رحمه الله 2/212.
9. وقال الحافظ كذلك رحمه الله: “تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن” الفتح 1/213.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *