تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب الإمام مالك -الحلقة الثالثة- رشيد مومن الإدريسي

أول أدلة مذهب مالك رحمه الله الستة عشر كما في نظم أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي: نص الكتاب والسنة الثابتة متواترة كانت أو آحاد(1)، وفي ذلك قال:

نص الكتاب ثم نص السنة ***  سنة من له أتم المنة
ولفظة (النص) أصلها “في اللغة وصول الشيء إلى غايته” كما في شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي رحمه الله 36.
ولذا في المعجم الوسيط 2/963 عند معنى النص: “هو في اللغة: أقصى الشيء وغايته”.
قال القرافي المالكي رحمه الله في معرض تقرير ذلك: “ومنه: منصة العروس(2) لأنها ترفع إلى غايتها اللائقة بالعروس، ومنه: نصت الظبية جيدها إذا رفعته” شرح تنقيح الفصول ص:36، وانظر كتاب الحدود في الأصول لأبي الوليد الباجي المالكي رحمه الله 43.
ولفظة النص في اصطلاح غالب الفقهاء تستعمل بمعنى الدليل حيث يشمل مفهوم النص والظاهر بالمعنى الخاص عند الأصوليين(3).
قال الحطاب المالكي رحمه الله: “والنص عند الفقهاء يطلق على معنى آخر وهو ما دل على حكم شرعي من كتاب أو سنة، سواء كانت دلالته نصا أو ظاهرا” قرة العين لشرح ورقات إمام الحرمين 112، وانظر تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي المالكي رحمه الله 85.
وهذا ما قصده صاحب مراقي السعود بقوله: “ويطلق النص على ما دلا” عندما قال:
نص إذا أفاد مالا يحتمل *** غيرًا، وظاهرٌ إنِ الغيرُ احتُمِلْ
والكل من ذين له تجلى *** ويطلق النص على ما دلا
قال في مراقي السعود إلى مراقي السعود شارحا ص:104: “(ويطلق النص) أيضا (على ما دلا) على أي معنى وهو غالب استعمال الفقهاء فيقولون: نص مالك وابن القاسم على كذا..”.
لكن المقصود في نظم أبي كف الشنقيطي المعنى الخاص لمفهوم النص والمشهور عند الأصوليين وهو: الذي يدل على معناه من غير أن يقبل ما عداه، وفي ذلك قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول إلى علم الأصول:
والنص قول مفهم معناه *** من غير أن يقبل ما عداه
أو نقول: “هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره أصلا.
مثاله من الكتاب قوله تعالى في صيام المتمتع الذي لم يجد هديا: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) نص في أن المتمتع، أي: الذي لم يجد هديا يلزمه صوم المجموع، الثلاثة التي في الحج والسبعة التي بعد الرجوع، الذي هو العشرة.
ومثاله من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله حرم عليكم وأد البنات)(4) فهذا نص في تحريم دفن البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية” إيصال السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 24.
قال الناظم:
دلالة اللفظ على محدد *** دون احتمال غيره كالعدد
فسمه النص كما في “عشرة *** كاملة” فحققن خبره
مصباح العقول بنظم أصول ابن باديس المالكي ص:242.
ومن المهم في هذا الصدد أن نفهم أن كون النص هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا أن ذلك سواء كان بأصل الوضع أو بموجب القرائن؛ فتنبه.
أما بأصل الوضع فكالمثال الذي مر في قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) فليس في ذلك أي احتمال للزيادة أو النقصان عن العشرة، فلفظة العشرة (نص) بأصل الوضع.
أما بموجب القرائن، فكقول القائل: “رأيت أسدا يخطب”، فالذي يحتمله لفظ الأسد في هذا السياق أنه الخطيب المفوه الشجاع، فلفظة (الأسد) نص بموجب القرائن.
وليعلم أن حكم (النص) بهذا المفهوم الخاص أنه يفيد القطع، ولا يعدل عنه إلا بنسخ في عهد الرسالة، وعليه فلا يحتمل التأويل ولا التخصيص أي: “لا يقبل الاعتراض إلا من غير جهة دلالته على ما هو نص فيه” كما في مفتاح الوصول للتلمساني المالكي رحمه الله ص:429.
وفي الختام هذه خلاصة ما يقال في مفهوم (نص الكتاب والسنة) الذي هو أول أصل من أصول مذهب إمامنا مالك رحمه الله، وأول مسلك من مسالك استنباط الأحكام الشرعية.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. قال ابن جزي المالكي رحمه الله: “وأما نقل الآحاد فهو خبر الواحد أو الجماعة الذين لا يبلغون حد التواتر، وهو لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن (أي: غالبه)، وهو حجة عند مالك” تقريب الوصول 121.
وقال القرافي المالكي رحمه الله: “..خبر الواحد وهو خبر العدل الواحد أو العدول المفيد للظن وهو عند مالك رحمة الله عليه وعند أصحابه حجة واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات والفتوى والشهادات..” شرح تنقيح الفصول 278.
2. قال الحطاب المالكي رحمه الله عند قول صاحب الورقات في معرض تقرير معنى النص لغة: (وهو مشتق من منصة العروس): ” وفي قوله: (مشتق من منصة العروس) مسامحة؛ لأن المصدر لا يشتق من غيره على الصحيح، بل يشتق غيره منه، فالمنصة مشتقة من النص، فالنص لغة الرفع، فإذا ظهرت دلالة اللفظ على معناه كان ذلك في معنى رفعه على غيره، فقوله: (مشتق من منصة العروس) لم يرد به الاشتقاق الاصطلاحي، وإنما أراد اشتراكهما في المادة” قرة العين لشرح ورقات إمام الحرمين 112.
3. قال القرافي المالكي رحمه الله: “والنص فيه ثلاثة اصطلاحات:
قيل: ما دل على معنى قطعا، ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء الأعداد.
وقيل: ما دل على معنى قطعا، وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم، فإنها تدل عل أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق.
وقيل: ما دل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء” شرح تنقيح الفصول 36.
4. رواه البخاري رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *