تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة الرابعة عشرة- رشيد مومن الإدريسي

الناظر في كتب الفقه والأصول يدرك أن الإمام مالكا رحمه الله اعتمد عمل أهل المدينة دليلا شرعيا لاعتقاده أنه سنة أو اجتهاد راجح من علماء أهل بلده.

قال ابن خلدون رحمه الله: “واعلم أن الإجماع إنما هو الاتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد، ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع1 صلوات الله وسلامه عليه2..
وذكِرت (أي: مسألة عمل أهل المدينة) في باب الإجماع لأنها أليق الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع.
إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة، واتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم.
ولو ذكرت المسألة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره، أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها” المقدمة 256 بتصرف.
وعليه فلم يكن تعويل مالك على عمل أهل المدينة لكونه بمثابة العرف كما ذهب إليه الجيدي حيث قال: “إن العمل الذي كان شائعا في المدينة على عهد مالك لم يكن على نمط واحد؛ وإنما كان فيه ما هو معمول به دائما.. وفيه ما كان معمولا به ولكنه قليل؛ فهو بمثابة العرف العام والعرف الخاص!!..” العرف والعمل 330.
ومما ينبغي أن ينتبه إليه ما فهمه بعض الأصوليين من أن إجماع أهل المدينة المقصود به ما جرى عليه عملهم في كل عصر وليس مقصورا على عصر الصحابة والتابعين. انظر البرهان 1/720، وأصول السرخسي 1/241.
والأمر على خلاف ذلك، ولذا قال الإمام السبكي رحمه الله: “ولا يظن ظان أن مالكا رضي الله عنه يقول بإجماع أهل المدينة لذاتها في كل زمان، وإنما هي من زمان رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى زمان مالك3 لم تبرح دار العلم، وآثار النبي عليه الصلاة والسلام بها أكثر، وأهلها بها أعرف” الإبهاج 2/407.
وقد اختلف أهل العلم عموما والمالكية خصوصا في حقيقة عمل أهل المدينة من جهة صورته ومجاله، وعلاقته بخبر الآحاد إلا أن أكثر المالكية تفصيلا وتحريرا وتحقيقا له الإمام القاضي عياض رحمه الله في ترتيب المدارك، ولأجله اعتمده المحققون من المالكية وغيرهم وهو الصواب -إن شاء الله تعالى- وإليك البيان.
قال القاضي عياض رحمه الله: “اعلموا أكرمكم الله أن جميع أرباب المذاهب من الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر إلب واحد على أصحابنا على هذه المسألة مخطئون لما فيها بزعمهم، محتجون علينا بما سنح لهم حتى تجاوز بعضهم حد التعصب والتشنيع إلى الطعن في المدينة وعد مثالبها 4.
وهم يتكلمون في غير موضع خلاف.
فمنهم من لم يتصور المسألة ولا تحقق مذهبنا فتكلموا فيها على تخمين وحدس.
ومنهم من أخذ الكلام فيها ممن لم يحققه عنا.
ومنهم من أحالها وأضاف إلينا ما لا نقوله فيها، كما فعل الصيرفي والمحاملي والغزالي، فأوردوا عنا في المسألة ما لا نقوله واحتجوا علينا بما يحتج به على الطاعنين على الإجماع .
وها أنا أفصل الكلام فيها تفصيلاً لا يجد المنصف إلى جحده بعد تحقيقه سبيلاً وأبين موضع الاتفاق فيه والخلاف إن شاء الله تعالى.
فاعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين:
ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الضرب منقسم إلى أقسام:
– ما نقل شرعاً مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كالصاع والمد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة… فنقلهم لهذه الأمور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا.
– أو نقل إقراره عليه السلام لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره كنقل عهده الرقيق وشبه ذلك.
– أو نقل تركه لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة.
فهذا النوع من إجماعهم في هذه الوجوه حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، فإن هذا النقل محقق معلوم موجب للعلم القطعي فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون… وهذا الذي تكلم عليه مالك عند أكثر شيوخنا، ولا خلاف في صحة هذا الطريق، وكونه حجة عند العقلاء، وتبليغه العلم يدرك ضرورة، وإنما خالف في تلك المسائل من غير أهل المدينة من لم يبلغه النقل بها.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب ولا خلاف بين أصحابنا في هذا5…
النوع الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، فهذا النوع اختلف فيه أصحابنا.
فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح..
قالوا لأنهم بعض الأمة والحجة إنما هي لمجموعها… وأنكر هؤلاء أن يكون مالك يقول هذا أو أن يكون مذهبه ولا الأئمة أصحابه.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، ولكن يرجح به على اجتهاد غيرهم، وهو قول جماعة من متفقهيهم وبه قال بعض الشافعية ولم يرتضه القاضي أبو بكر ولا محققو أئمتنا وغيرهم.
وذهب بعض المالكية إلى أن هذا النوع حجة كالنوع الأول وحكوه عن مالك….
ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوه6:
– إما أن يكون مطابقاً لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد بلا خلاف في هذا إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخرين وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
– وإن كان مطابقاً لخبر يعارضه خبر آخر كان عملهم مرجحاً لخبرهم وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت…
– وإن كان مخالفاً للأخبار جملة: فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، وعند المحققين من غيرنا على ما تقدم، ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف، كما ظهر هذا للمخالف المنصف فرجع…
وإن كان إجماعهم اجتهاداً قدم خبر الواحد عليه عند الجمهور، وفيه خلاف كما تقدم من أصحابنا.
– فأما إن لم يكن لهم عمل بخلافه ولا وفاق فقد سقطت المسألة ووجب الرجوع إلى قبول خبر الواحد، كان من نقلهم أو من نقل غيرهم إذا صح ولم يعارض.
فإن عارض هذا الخبر الذي نقلوه خبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق كان ما نقلوه مرجحاً عند الأستاذ أبي إسحاق وغيره من المحققين لزيادة قرب مشاهدتهم قرائن الأحوال وتعددهم لنقل آثار الرسول عليه السلام وإنهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه..” ترتيب المدارك 1/11 فما بعدها بتصرف.
وفي الختام فليعلم أنه إذا كان عمل أهل المدينة أصلا من أصول مالك على ما سبق تفصيله، إلا أنه يجب التثبت من وروده بالتنصيص عليه في كتب المالكية خاصة التي عليها العمدة، حيث لا يقبل ادعاؤه دون سند ولا بينة مما حدا بالعلامة الحجوي المالكي رحمه الله أن يقول: “وهذا سلاح استعمله متأخرو المالكية مهما لم يجدوا في الحديث مطعنا ادعوا العمل، ولا ينبغي ذلك لهم في دين الله” الفكر السامي 1/390.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. انظر مبحث وصف النبي عليه الصلاة والسلام بذلك معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر رحمه الله 508-509.
2. ولذلك نجد الإمام القرافي المالكي رحمه الله وهو يقرر أصول مالك يعد الإجماع حجة، ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى حيث قال: “الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة..” شرح تنقيح الفصول 445.
3. قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض الكلام عن إجماع أهل المدينة: “والكلام إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماعهم ليس بحجة” الفتاوي 20/300.
4. انظر البرهان في أصول الفقه للجويني 1/720، وأصول السرخسي 1/214.
5. يقول القرافي رحمه الله في معرض الكلام عن إجماع أهل المدينة النقلي: “إجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف حجة، خلافا للجميع!!” شرح تنقيح الفصول 324.
فقوله: “خلافا للجميع” غير صحيح، بل هذا النوع من عمل أهل المدينة “حجة باتفاق العلماء” كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 20/304.
6. وهذا التفصيل في خصوص عمل أهل المدينة مع خبر الواحد ينفي ما نُسب للمالكية من أنهم يردون خبر الواحد إذا خالف عمل أهل المدينة، هكذا مطلقا!! انظر شرح الكوكب المنير 2/367.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *