لما كان الجواب عن كثرة الأسئلة مظنة الخطأ بل الغلط “وتحت الغلط اللغط”، ولما كان منصب الإفتاء بمثابة التوقيع عن رب الأرض والسماء، كان الإمام مالك رحمه الله يكره كثرة الأسئلة.
حتى كان رحمه الله لا يجيب عن أكثر من مسألتين، فإن سأل طالب عن مسألة ثالثة قال: “خذوا بيده وأخرجوه” ترتيب المدارك 2/32.
قال سفيان الثوري رحمه الله وهو يصف مجلس الإمام مالك:
يأبى الجواب فلا يراجع هيبة *** والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى *** فهو المهيب وليس ذا سلطان
وعن ابن وهب قال: قال لي مالك، وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: “يا عبد الله، ما علمت فقل ودلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه، وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء” أدب الفتيا للسيوطي 48.
وأصل صنيع الإمام رحمه الله ما ورد في الكتاب والسنة وفي كلام سلف الأمة من ذم الإكثار من الأسئلة، بل استفاض كما قال الناظم:
وذم إكثار من الأسئلة *** دليل ذا استفاض في ذي الأمة
من الكتاب ومن الحديث ومن كلام سلف حثيث
من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
قال الحافظ رحمه الله: “والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل، إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء، الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة” الفتح 8/282.
ومع أن الآية قصد بها أولا وبالذات النهي عن السؤال في زمن الوحي كما نص عليه القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل 6/2171 وكما هو بين في الآية إلا أنه “لم ينقطع حكمها، فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله، ..وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه، وستره، فلعله يسوؤه إن أبدي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله..” إعلام الموقعين 1/ 109 بتصرف.
وقد روى ابن عبد البر رحمه الله في جامعه 3/1059 بالسند الحسن عن الحجاج بن عامر الثمالي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إياكم وكثرة السؤال”.
وعن مالك رحمه الله قال: “لا أحب هذا الإكثار من المسائل والأحاديث، وأدركت أهل هذا البلد يكرهون الذي في الناس اليوم، ولم يكن أول هذه الأمة بأكثر الناس مسائل ولا هذا التعمق.
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن كثرة المسائل، وفي الحديث نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، فلا أدري أهو ما أنتم فيه من كثرة السؤال أم سؤال الاستعطاء” الجامع لابن عبد البر 2/172.
وعن عبدة بن أبي لبابة قال: “وددت أن أحظى من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدارهم” جامع بيان العلم2/1059.
وعن زيد قال: “ما سألت إبراهيم عن شيء إلا عرفت الكراهية في وجهه” سنن الدرامي 1/52.
أما ما ورد في بعض الأحاديث من أسئلة الصحابة “فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه..” محاسن التأويل 6/2173.
وعليه فما كلُّ سؤال يذم، وإنما المذموم والذي يكره طرحه ما جاء في أحد المواضع الآتية، كما بينها الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/318-321، وهي:
أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين.
ثانيها: أن يسأل المرء بعدما بلغ من العلم حاجته.
ثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا خاص بما لم ينزل فيه حكم.
رابعها: السؤال عن صعاب المسائل وشرارها.
خامسها: السؤال عن علة الحكم والمسؤول عنه من قبيل التعبدات، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال.
سادسها: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق.
سابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي.
ثامنها: السؤال عن المتشابهات.
تاسعها: السؤال عما شجر بين السلف الصالح.
عاشرها: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام.
فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحد، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد.
قال الناظم:
لا سيما في العشر من مواضع *** فإنه ذم بلا منازع
أحدها ما ليس دينا ينفع *** أو بعد مبلغ من العلم فعوا
وثالث ما ليس ذا احتياج *** إليه أو صعابة اللجاج
وخامس عن علل التعبدات *** أو بتكلف مع التعمقات
وسابع معارض الكتاب *** أو عن تشابه بلا صواب
وتاسع عن واقع في السلف *** أو التعنت بإفحام يفي
وجملة المقال أنه من دلائل إخلاص وورع الإمام مالك ذمه لكثرة الأسئلة، وحرصه على دفع ذلك عنه.
قال رحمه الله: “إن المسألة إذا سئل فيها الرجل فلم يجب واندفعت عنه، فإنما هي بلية صرفها الله عنه” ترتيب المدارك 2/61.