مفهوم حقيقة مصطلح المذهب المذهب المالكي أنموذجا الحلقة الثانية رشيد مومن الإدريسي

مر معنا أن مفهوم المذهب المالكي -كأنموذج- اصطلاحا هو ما له تعلق بالأحكام الاجتهادية الظنية التي اختص بها الإمام مالك رحمه الله أصالة، ذلك لأن الأحكام التي دل عليها الدليل الصحيح الصريح الذي لا معارض له لا يصح -في الأصل- نسبتها إلا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد عبد الله ولد المختار في نظمه مفتاح باب الجنة في نصرة السنة والأئمة ص:6:
ومذهب الإمام ما إليه *** يذهب فيما ليس نص فيه
أما نصوص الشرع في القرآن *** وفي حديث المصطفى العدنان
فلا يقال أنها مذاهب *** بل المذاهب إليها تنسب

نهي العلماء عن مخالفة للدليل تعصبا للمذهب
مما يؤكد ذلك ويوضحه نهي العلماء عن التقليد إذا ظهر الحق وبان، فإن الحق أبلج والباطل لجلج، وعليه يحمل قول سند بن عنان المالكي رحمه الله وهو من كبار المالكية، وقد شرح المدونة لما قال: “الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد.. فهو قبول قول الغير من غير حجة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع؟! وهو أيضا في نفسه بدعة محدثة..” انظر القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني رحمه الله ص:43.
وعليه فالواجب رد ما جاء في المذاهب إلى الكتاب والسنة وليس في ذلك قدح في علم الأئمة.
قال محمد عبد الله ولد المختار في مفتاح باب الجنة في نصرة السنة والأئمة ص 8:
وليس بالقادح في الأئمة *** رد المذاهب لنهج السنة
فالرد لله وللرسول عند التنازع من المنقول
لا توجبوا تمسكا بالمذهب *** إلا إذا وافق سنة النبي
ولذا كان التعصب لمذهب دون آخر من حمية الجاهلية، حتى ورد في الجزء الأول من شرح الحطاب لمختصر خليل المالكي عازيا1 لتقي الدين السبكي رحمه الله يخاطب أصحاب المذاهب الأربعة ما نصه: “وأما تعصبكم في فروع الدين وحملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله الله منكم، ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد، ولو أن الشافعي ومالكا وأبا حنيفة وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرؤوا منكم فيما تفعلون” نقلا عن الصوارم والأسنة ص 277.
قال محمد عبد الله ولد المختار في نظمه مفتاح باب الجنة ص: 5 في حق الأئمة:
ولم يقل أحدهم تمسكوا *** بمذهبي وما سواه فاتركوه
لا يجوز تقليد إمام في مسألة ضعف مدركه فيها
إذا كان الرجل متبعا بعض الأئمة الأربعة في الفقه كمالك رحمه الله ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره هو الصواب أو الأصح فاتبعه كان هذا هو الواجب في حقه، وأحب إلى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
قال العلامة القرافي المالكي رحمه الله: “لا يجوز تقليد إمام في مسألة ضعف مدركه فيها ولو لمقلده في غيرها، فالمالكي لا يجوز له تقليد مالك في حكم ضعف مدركه فيه2، وإنما يقلده فيما وافق الدليل أو قوي دليله على دليل غيره امتثالا لقوله: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، وكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)..” نقله عنه السنوسي المالكي رحمه الله في الإيقاظ، انظر الصوارم والأسنة 246.
وقال العلامة المواق المالكي رحمه الله في كتابه التاج والإكليل لمختصر خليل ما نصه عازيا1 ذلك إلى عز الدين بن عبد السلام في قواعده: “من العجب العجيب أن يقف المقلد على ضعف مأخذ إمامه، وهو مع ذلك يقلده كأن إمامه نبي أرسل إليه، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب، بل تجد أحدهم يناضل عن مقلده، ويتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن عليه نفسه، تعجب منه غاية التعجب، لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبر لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره.
فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر، من غير فائدة يجنيها، ..فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذكرناه، وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان، وعلى لسان من ظهر..” انظر إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين 150، والصوارم والأسنة 273.

المتبوع معذور والتابع مأزور
فإذا كان الإمام معذورا في مخالفة الدليل بأحد الأعذار المقبولة كما كشف عنها الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالته “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”3، فإن التابع له لا يعذر إذا ظهر له الصواب في خلاف مذهب متبوعه.
قال العلامة محمد بن عزوز المالكي رحمه الله: “..وحيث لا نص فكل على اجتهاده لخفاء المحق من المخطئ، فإن ثبت نص معاضد لأحدهم فالحق يتعين له.
ولا يجوز لمسلم التعصب لقول أحد تبين خطؤه في ذلك القول4، ولكن يحمل قائله الأول على عدم بلاغ الخبر له5 تنزيها لمقامهم عن تعمد المخالفة، هذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله وسائر الأئمة في هذه المسألة” عقيدة التوحيد الكبرى ص 216.
قال محمد عبد الله ولد المختار في مفتاح باب الجنة ص:5:
والعذر مقبول من الإمام *** ورافع للإثم والملام
بعكس من قلده من بعدما *** صح له الحديث عند العلما
بذا عليه الإثم والملام *** ومنه قد تبرا الإمام
لأنهم قد حذروا أتباعهم *** من مثل ذا وعقدوا إجماعهم
بأن ما قالوا وما رأوا إذا *** خالف سنة الرسول نبذا
إمامنا في تركه مأجور *** والمقتدي بتركه مأزور
إن الإمام ناقل عن الرسول *** وليس بالرسول يا ذوي العقول
فالحذر الحذر من مصادمة السنة تعصبا لأقوال الرجال، وبدعوى التمسك بالمذهب، فإن هذا الأخير كما بيناه لا يعدوا المسائل الاجتهادية لا الأمور المنصوص عليها في الأدلة الشرعية، كما أن التمذهب على ما وضحناه فيما مضى وسيلة للتفقه لا غاية.
قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في معرض الكلام عن المعارض للسنة: “..لو قلت لأحدهم مثلا السنة كذا وكذا قابلك بما لا يليق، فيقول كان شيخي يفعل كذا وكذا وما هذا طريق شيخي وكان شيخي يقول كذا وكذا، ويصادم بذلك كله السنة الواضحة والطريقة الناجحة، يا ليتهم لو وقفوا عند هذا الحد لو كان سائغا، بل زادوا على ذلك الأمر المخوف وهو ما بلغني ممن أثق به أن بعض من ينسب إلى العلم تكلم في مسألة ونقل فيها عن بعض شيوخه نقلا تأباه الشريعة، فقال له بعض من حضره: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرد هذا، فأجابه بأن قال حديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما يراد للتبرك، والشيوخ هم الذين يقتدى بهم، وهذا إن كان معتقدا لما قاله كان كافرا حلال الدم، وإن لم يعتقده فهو مرتكب لكبيرة عظمى يجب عليه أن يتوب منها مع الأدب الموجع” المدخل 2/140-141.
وللبحث بقية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: “من نقل كلام الغير مرتضيا له ومحتجا به فهو قائل له” الصوارم والأسنة 255.
2. لأن هذا التقليد من دلائل نقص العقول ودناءة الهمم.
قال أبو عثمان سعيد الحداد المغربي المالكي: “إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقص العقول ودناءة الهمم، نقلا عن كتاب الفقيه عبد الواحد بن عاشر حياته وآثاره الفقهية ص: 40، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة 1426-2007.
3. قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله في معرض الكلام عن أسباب اختلاف العلماء: “من أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله، فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل إليه، وأن يعض بالنواجذ عليه..” الجرح والتعديل 35.
4. يروى أن الإمام أشهب المالكي رحمه الله سئل عن مسألة فأفتى فيها بما يخالف قول الإمام مالك رحمه الله، فذكر له قول الإمام فقال: “وإن قالها مالك، فلسنا له بممالك” نقلا عن كتاب منهاج الواردين على التفقه في الدين 17، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
5. هذا هو العذر الغالب الذي يستدعي مخالفة الإمام لما ورد في السنة كما نص عليه ابن تيمية رحمه الله في رفع الملام، بل هو أول عذر ذكره.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *