مما هو معلوم في الصنعة الفقهية أن المسألة التي لم يقطع فيها الفقيه بحكم ما عليه أن يتورع فيها بعدة صور: إما أن يقول: لا أدري وهي تزينه ولا تشينه، أو يذكر الأقوال فيها ويتوقف عن الترجيح، وإن كان يميل إلى رأي وهو منه في شك يقول: أظن كذا ولست بجازم، أو هذا ما أراه أو لا أحب ذلك، أو أكره ذلك.. ونحو هذا بحيث لا يدل الكلام على نسبة ذلك للشرعة على وجه الجزم فإن هذا الأخير عند الشك من أقبح الأمور.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “ولكن كثيرا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع، بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا وافتراء” الفتاوي 35/366.
ويقول ابن القيم رحمه الله: “وسمعت شيخ الاسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال هذا حكم الله.. فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟ قل: هذا حكم زفر، ولا تقل هذا حكم الله أو نحو هذا من الكلام” 4/223.
وعليه فالمسائل التي مبناها على الاجتهاد لا يصح أن يقال فيها حرام أو حلال..لأن حقيقة الأمور الاجتهادية أنها مبنية على الظن، كما قال ابن أبي الأصبغ في معالمه رحمه الله:
والاجتهاد إنما يكون في كل ما دليله مظنون
أما الذي فيه الدليل القاطع فهو كما جاء ولا منازع
وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن المسارعة في إصدار أحكام التحليل والتحريم، فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئًا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه”.
قال ابن القيم رحمه الله: “..ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله عليه الصلاة والسلام: إن الله حرم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا، وأن هذا هو حكم الله” إعلام الموقعين 1/77.
ومن الأئمة الأعلام الذين اشتهر عنهم هذا النهج الصحيح، والمسلك الفصيح: الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن وهب رحمه الله: “سمعت مالكاً يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسناً. فينبغي هذا ولا نرى هذا” انظر إعلام الموقعين 1/39، والموافقات 4/287، وجامع بيان العلم لابن عبد البر رحمه الله 2/1075.
علق الحافظ ابن عبد البر رحمه الله على مقولة مالك رحمه الله بقوله: “معنى قول مالك رحمه الله هذا أن ما أخذه من العلم رأيا واستحسانا لم يقل فيه حلال ولا حرام، والله أعلم” جامع بيان العلم 2/1075.
وقال محمد بن الحسن الحجوي رحمه الله: “ولقد كان كثير من السلف الصالح كمالك، يتحرى أن لا يصرح بحكم اجتهادي لم يصرح به في الكتاب ولا في السنة، فلا يقول هذا حرام، ولا حلال، ولا واجب مثلا، بل يقول هذا لا يعجبني، أو لم يكن من فعل السلف، أو لا أرى به بأسا..، لأن المفتي مخبر عن الله، ويجوز عليه الخطأ فيتحاشى أن يندرج تحت قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ}” الفكر السامي 1/62، وانظر البيان والتحصيل 18/ 340.
وهذا الشأن من الإمام مالك رحمه وغيره من العلماء نوع من الإشفاق من الفتوى كما قال محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني رحمه الله: “أما إذا لم يكن الحكم الإلهي في المسألة بهذا الوضوح فإن مالكا رحمه الله كان كثير الإشفاق من الإجابة” سلفية الإمام مالك 168 ملحق بكتاب الإمام مالك.
كما أن هذا الأمر من نتائج التعظيم لشرع الله ودينه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خطئهم وخطإ غيرهم، كما قال ابن مسعود في الْمُفَوَّضَةِ: (هي المزوجة بغير مهر) أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكون خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. وكذلك روي عن الصديق في الكَلالة، وكذلك عن عمر في بعض الأمور، مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه؛ حتى يوجد النص موافقاً لاجتهادهم، كما وافق النص اجتهاد ابن مسعود وغيره، وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله، وبما يجب من تعظيم شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يضيفوا إليه إلا ما علموه؛ وما أخطؤا فيه وإن كانوا مجتهدين قالوا: إن الله ورسوله بريئان منه” الفتاوي 33/41-42.
وفي الختام فالحذر الحذر من الاستخفاف بكلمة “حرام” -مثلا- وإطلاق العنان لها عند الإفتاء وإصدار الأحكام الشرعية، لأن كلمة “حرام” إنما تعني عقوبة الله على الفعل، وهذا أمر لا يعرف بالتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه في كتاب قديم، إنما يعرف من نص ثابت صريح، أو إجماع معتبر صحيح، ولنا في الإمام مالك رحمه أسوة، كما لنا في غيره من سلفنا الصالح قدوة.
نقل الإمام الشافعي في الأم 7/351 عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: “أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز و جل بيناً بلا تفسير”.