خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث “ضبط معاني الألفاظ الشرعية” -الحلقة الثالثة عشرة- رشيد مومن الإدريسي

من القواعد الفرائد عند أهل السنة والحديث في منهج الاستدلال ضبط معاني الألفاظ الشرعية وفق قواعد مرعية حذرا من الوقوع في تحريف دلالاتها المعتبرة، إذ “الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه.. مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله.. مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله.. فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه، هذا هو طريق الله وسبيله”1.

قال العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله: “إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بني على هذه المقدمات الكاذبة “2.
قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَم وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء46.
يقول العلامة السعدي رحمه الله: “{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا…
فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق..”3.
ولذا نقول: السبيل لإحكام دلالات الألفاظ الشرعية، وضبط حقيقتها يرجع إلى جهتين:
جهة عامة متعلقة بأي لفظ، وجهة خاصة للكشف عن الحقائق الشرعية.
أما عموما فالأمر الجامع لدَرْءِ الاشتباه عن الألفاظ الشرعية، وضبط معانيها، يحصل بأمرين اثنين4:
– أولهما: استقراء المعنى والاستعمال (أي التتبع لهما).
– ثانيهما: إعطاء كل ذي حق حقه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “والاسم كلما كثر التكلم فيه -فتكلم به مطلقا، ومقيدا بقيد آخر في موضع آخر- كان هذا سببا لاشتباه بعض معناه، ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك.
ومن أسباب ذلك: أن يسمع بعض الناس بعض موارده، ولا يسمع بعضه، ويكون ما سمعه مقيدا بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى، فيظن معناه في سائر موارده كذلك.
فمن اتبع علمه: حتى عرف مواقع الاستعمال عامة، وعلم مأخذ الشبهة: أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام الله، وأنه لا بيان أتم من بيانه”5.
أما على الخصوص فنقول ابتداء: من الدلائل على أهمية ضبط الحقيقة الشرعية للألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ما صح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ليستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه”6.
قال الإمام ابن العربي المالكي -رحمه الله- تعليقا على الحديث: “وهو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها”7.
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يتوصل إلى معرفة الحقيقة الشرعية بأمرين اثنين وهما:
– الأول: استقراء النصوص الشرعية، وتتبع استعمال اللفظ المراد بخصوصه، وذلك بشدة البحث وكثرة النظر والمطالعة، فإن “الوقوف على الحقائق لا يكون إلا بشدة البحث، وشدة البحث لا تكون إلا بكثرة المطالعة..”8.
– الثاني: مراعاة عرف الصحابة رضي الله عنهم في استعمال الألفاظ؛ إذ الشرع نزل بلغتهم وبعرفهم في الأصل، وهو ما اصطلح عليه: بعرف زمن التشريع.
فـ”من لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وعادتهم في الكلام وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك”9.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام، والواجب على كل مؤمن أن يكل ما أشكل عليه إلى أصدق قائل، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم، .. والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر المقتضى في موضع والمانع في موضع آخر ويثبت الشيء وينفي مثله في الصورة وعكسه في الحقيقة ولا يحيط أكثر الناس بمجموع نصوصه علما، ويسمع النص ولا يسمع شرطه ولا موانع مقتضاه ولا تخصيصه ولا ينتبه للفرق بين ما أثبته ونفاه فينشأ من ذلك في حقه من الاشكالات ما ينشأ وينضاف هذا إلى عدم معرفة الخاص بخطابه ومجاري كلامه، وينضاف إلى ذلك تنزيل كلامه على الاصطلاحات التي أحدثها أرباب العلوم من الأصوليين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم فإن لكل من هؤلاء إصطلاحات حادثة في مخاطباتهم وتصانيفهم فيجيء من قد ألف تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقت معانيها إلى قلبه لم يعرف سواها فيسمع كلام الشارع فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرده بكلامه، ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع، وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه مع قلة البضاعة من معرفة نصوصه فإذا اجتمعت هذه الأمور مع نوع فساد في التصور أو القصد أوهما معا حصل ما شئت من خبط وغلط وإشكالات وضرب كلامه بعضه ببعض وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته والله المستعان”10.
أما قول من قال: أن معرفة معاني الألفاظ الشرعية مرجعه أصلا وفرعا إلى اللغة العربية فنقول: هذا صحيح باعتبارها مدخلا بيانيا، لكن مع مراعاة الحقيقة الشرعية أصالة، ولَحْظِ فهم السلف الصالح ونهجهم وضم ذلك كله لها جنبا إلى جنب، مع الاستقراء والتتبع كما أسلفنا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها من جهة النبي عليه الصلاة والسلام، لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم”11.
ثم قال كذلك رحمه الله: “فالنبي عليه الصلاة والسلام قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق، وشواهد استعمال العرب، ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف “12.
وقال أيضا رحمة الله عليه: “الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة:
منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله، كاسم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق. ومنه ما يعرف حده باللغة، كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر. ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم -فيتنوع بحسب عادتهم- كاسم البيع، والنكاح، والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس.
فما كان من النوع الأول: فقد بينه الله ورسوله، وما كان من الثاني والثالث: فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه المحدود في اللغة، أو المطلق في عرف الناس وعادتهم، من غير حد شرعي ولا لغوي، بهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة.
والاسم إذا بين النبي -صلى الله عليه وسلم- حد مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عُرِف مراده بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيف ما كان الأمر، فإن هذا هو المقصود…
وإذا كان الأمر كذلك فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-“13.
واعلم أن القاعدة في الباب لِلْخَلُوص إلى ضبط معنى اللفظ على وفق المراد الشرعي عند المحققين من أهل العلم حمله “على الحقيقة الشرعية، ثم العرفية، ثم اللغوية، ثم المجاز عند القائل به14 إن دلت عليه قرائن”15.
مع لفت النظر إلى أن القضية في أصلها محل خلاف بين الأصوليين على أن الصواب ما ذكرناه وفي ذلك قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في معرض الحديث عن مسألة فقهية: “..الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة العرفية والحقيقية اللغوية، على أيهما يحمل؟
والصحيح عند جماعات من الأصوليّين: أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أوّلاً إن كانت له حقيقة شرعية، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية، ثم اللغوية. وعن أبي حنيفة: أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية16، قال: لأن العرفية، وإن ترجّحت بغلبة الاستعمال فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
والقول الثالث: أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى بل يحكم باستوائهما، فيكون اللفظ مجملاً لاستواء الاحتمالين فيهما، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج، وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود) بقوله:
واللفظ محمول على الشرعي **** إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجد **** بحث عن المجاز في الذي انتخب
ومذهب النعمان عكس ما مضى **** والقول بالإجمال فيه مرتضى”17.

……………………………………….
1. الفتاوي لشيخ الإسلام رحمه الله 11/26.
2. عيون البصائر 2/571.
3. تيسير الكريم الرحمن 180.
4. انظر الإحكام للإمام ابن حزم رحمه الله 8/101.
5. الفتاوي 7/356-357.
6. أخرجه أحمد وابن ماجة عليهما رحمة الله، وهو حديث صحيح لغيره، انظر السلسلة الصحيحة رقم: 90.
7. نقله عنه الحافظ رحمه الله في الفتح 10/57.
8. التقريب للإمام ابن حزم رحمه الله 198.
9. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية رحمه الله 77.
10. مفتاح دار السعادة.
11. الفتاوي 7/286.
12. نفسه.
13. الفتاوي 19/235-236.
14. القول بوجود المجاز في الوحيين ولغة العرب، أو في الثاني دون الأول فيه خُلف والقضية محل نظر والتحقيق فيها عدم وجوده في أي منهما، مع العلم أن الخلاف في هذه المسألة في بعض نواحيها ومع بعض الأطراف من المختلفين هو لفظي إذا ضُبِطت صورته.
15. مذكرة في أصول الفقه للعلامة الشنقيطي رحمه الله 175، مع التنبيه أن تفسير اللفظ الوارد في النص الشرعي بالحقيقة الشرعية أو العرفية أو اللغوية -حسب القاعدة المذكورة على مذهب المحققين- يُصَيِّر هذا التفسير مرادا شرعا لا تجوز مخالفته دون دليل فتأمل.
16. انظر كشف الأسرار 1/61، وأصول السرخسي 170-171.
17. أضواء البيان (تفسير سورة الأحزاب).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *