لقد حظي القرنان الثالث عشر الهجري والرابع عشر بكتيبة من العلماء المغاربة الذين جمعوا بين كفاءة علمية عالية، ودعوة إصلاحية سامية، عاشوا بالدين ومن أجل الدين، نفع الله بهم غاية النفع، فكانوا القدوة في العلم والعمل، كان لهم قصب السبق في الحركة الوطنية والدفاع عن الوطن.
من هؤلاء الصالحين المصلحين العلامة عبد السلام بن محمد السرغيني، أصله من قبيلة “السراغنة” بالمغرب الأقصى، استوطن فاسا. فقيه مطلع، له دروس حافلة بالقرويين، عين قاضيا في قبيلته السراغنة، وبقي هناك إلى أن توفي بها رحمه الله يوم الاثنين 25 من شوال عام (1354 هـ) (انظر سل النصال للنضال لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة (ص77)).
قال عنه العلامة الحافظ تقي الدين الهلالي في مقدمة خطبة السلطان المولى سليمان العلوي: “فقيد السلفية والدعوة للإصلاح الديني العلامة عبد السلام السرغيني برد الله ثراه”.
وقال عنه محمد الفاسي: “إن تاريخ الحركة الوطنية -بل الفكرة الوطنية نفسها- يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين كشيخنا السيد عبد السلام السرغيني رحمه الله، وكثيرا ممن تتلمذوا لابن العربي كانوا أيضا في نفس الوقت تلاميذ للسيد عبد السلام السرغيني. وقد لاقت هذه الحركة أيضا مقاومة شديدة من طرف القبوريين، وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين، ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح” (مجلة دعوة الحق العدد 8 سنة 1959م، ص:19).
له كتاب “المسامرة” وهو عبارة عن محاضرة ألقاها بنادي المسامرة بالمدرسة العليا الإدريسية بفاس، في الدعوة لإقامة السنة ومحاربة البدع قال في مستهله:
“الحمد لله الذي أنزل القرآن نورا يهتدى به في ظلمات الجهل الداج، وصراطا مستقيما من سلكه اهتدى لأقوم المحاج، وأرسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نزل إليهم من كتابه السراج الوهاج، وصلى الله عليه وعلى آله السالكين باتباع سنته أقوم منهاج، القامعين لأهل البدع والضلال باللسان والسيف والسنان في الأفراد والأزواج. أما بعد: أيها السادات الكرام إنني ملق إليكم بكلمات طالما اختلج بها الضمير .. إلا أني لم أر أحدا من السادة الذين سامروا قبلي تكلم عليها ولا أشار إليها، مع أنها هي التي ينبغي أن تقدم، وتقصد وتؤم؛ إذ ما من مكلف مكلف إلا ويجب عليه أن يتمسك بالسنة ويعض عليها بالنواجذ، ويجتنب البدع ويفر من أهلها، ولا فراره ممن يقصد من مقاتله المنافذ؛ وذلك لأن ارتكاب البدعة أعظم من ارتكاب المعصية.” المسامرة (ص2-3).
– وقال أيضا: “ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف له من أهل السنة، وإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم)، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا”. المسامرة (ص8-10).
قلت: فهذا هو المنهاج القويم والصراط المستقيم، فمن اتبعه أراح نفسه من التبعات، والوقوعِ في المخالفات، والإزراءِ بمن سبقه من السادات.