مر معنا في الحلقة السالفة إثبات مرتبة المتبع بخلاف ما ذهب إليه بعض المتمذهبة، وهذه المنزلة سماها بعض أهل العلم بمنزلة المقصر1، لأن درجته قد قصرت عن درجة المجتهد، وأطلق عليها الشوكاني رحمه الله اسم المجتهد لنصيب عنده من بذل الوسع والجهد في الفهم والبحث2 وتسمى عند علمائنا المالكية بالتبصر3.
قال محمد حبيب الله الجكني الشنقيطي المالكي رحمه الله في معرض الكلام عن استدلال صاحب هذه المرتبة: “وهذا الاستدلال يسمى بالاستبصار كما قاله بعض العلماء ومن له اعتناء بحفظ الدليل وطلبه يسمى متبصرا إذ التبصر كما في تأسيس القواعد للشيخ زروق: (هو أخذ القول بدليله الخاص به من غير استبداد بالنظر ولا إهمال للقائل، وهو رتبة مشايخ المذاهب وأجاويد طلبة العلم..) وقد أشرت في منظومتي في أدلة مذهب إمامنا مالك لكون أخذ القول بدليله يسمى تبصرا بقولي:
وأخذ قول بدليل ينصر قائله عرفا هو التبصر
من غير إهمال لذي القول ولا بالنظر استبد من ذا استعملا”
إضاءة الحالك من ألفاظ دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك 130.
بل قال رحمه الله: “وهذا النوع من الاحتجاج هو المسمى بالاستبصار، وجوازه للمقلد4 كاد أن يكون مما لا نزاع فيه بين علماء السلف والخلف” نفسه 136.
هذا مع العلم أن وسم المتقدمين وبعض الأصوليين ومن درج على ذلك لهذه المرتبة بالتقليد والعامية وجهه كما قيل أن “القاصر في فن كالعامي فيه” تسهيل الوصول إلى فهم علم الأصول 87.
وقد وضح ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله لما ذكر مرتبة المتبع حيث قال عنه:” فلا يخلو:
إما أن يعتبر ترجيحه ونظره أو لا 5:
فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه متوجه شطره فالذي يشبهه كذلك.
وإن لم نعتبره5 فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم فكذلك من نزل منزلته ” الاعتصام 2/ 342_343.
ومن تم فلا ريب في إثبات مرتبة المتبع بين المجتهد والعامي الصرف، وأن هذا المتبع المتمذهب إذا ظهر له الحق في غير مذهبه الواجب عليه التمسك بالحق لا التعصب لمذهبه لكونه عاميا بناء على أن الناس إما مجتهد وعامي! ولا يكون بذلك خارجا حقيقة عن مذهب إمامه فتأمل، والله الموفق.
ومن شبه متعصبة المذاهب عند هذا المقام فيما يخص عدم أخد المتبع خاصة للدليل إذا ظهر له مخالفة لمذهبه قولهم:
أن الذي له الحق بالنظر في الأدلة هو المجتهد وعليه فحق غيره التقليد المجرد مطلقا ويذكرون عند هذا الطرح البارد مثل قول الإمام القرافي رحمه الله وقد سبق بطوله قي حق من يأخذ بالدليل مخالفة للمذهب: “… غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض لذلك، وذلك يعتمد تحصيل أصول الفقه، والتبحر في الفقه، فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والاجتهاد” الفروق 2/109.
كما يوردون في هذا الصدد ما أثر عن سفيان بن عيينة رحمه الله حيث قال: “الحديث مضلة إلا للفقهاء6” الجامع لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله 118، والمدخل لابن الحاج رحمه الله 1/185، وفتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك رحمه الله لابن عليش رحمه الله 11/ 86 في آخرين.
قال العلامة محمد فال بن باب العلوي رحمه الله:
وقولة سفيان الحديث مضلة لغير فقيه الاجتهاد من أهله
مقالة حق وهي في حق قاصر يحل صريح اللفظ غير محله
ولم يدر ما منسوخه وضعيفه ويخطئ في وضع الحديث وحمله
الصوارم والأسنة 259.
وهذا الكلام ونحوه حق ولكن أراد به البعض الباطل ذلك أن المتبع كما مر معنا الواجب عليه إتباع الحق إذا وقف عنده دون استبداد بالنظر، ولا استقلال في الاستنباط، كما أنه لا يهمل الدليل والأثر، وعليه فمقصود السلف والأئمة من كلامهم السالف أن الذي له الحق في النظر في الأدلة والاستنباط استقلالا7 هو المجتهد فحسب، وهذا لا إشكال فيه على أن المتبع تابع له فتأمل ولا تكن من الغافلين.
إذن القول بأن الذي له الحق في الاستباط والنظر استقلالا هو المجتهد لا يلغي أن المتبع يتبع الحق أين اتجهت ركائبه، ويدور مع الدليل حيث دار، لأن لغير المجتهد أن ينظر في الكتاب والسنة لكن بنظر الفقهاء والعلماء، وبدون ذلك يضل.
ولذا قال ابن عليش المالكي رحمه الله في معنى مقولة سفيان بن عيينة رحمه الله: “يريد أن غيرهم (أي: الفقهاء) قد يحمل الشيء على ظاهره وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقه” فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 1/86، وانظر الجامع لابن أبي زيد القيرواني 118، والمدخل لابن الحاج 1/185، والصوارم والأسنة 259 في آخرين.
وخلاصة الكلام أن “عسر استنباط الأحكام من الحديث على غير الفقهاء العارفين بجميع أحواله.. إنما يتجه لو كانت تلك الأحاديث الدالة على تلك المسائل لم يستدل بها عليها مجتهد عارف بجميع أنواع الحديث، وإنما نبع الاستدلال بها عليها اليوم من بعض المقلدين الذين لا علم لهم بشيء من علم الحديث، فأما من أخذ بتلك المسائل تابعا فيها قول أكثر المجتهدين8 الذين أظهروا له الحجة على قولهم بالأحاديث الصحيحة فأخذ تلك المسائل بدليلها الخاص بها من غير استبداد بالنظر ولا إهمال للأثر، فلا يتجه عليه اعتراض، وهذا النوع يسمى عند أهل الأصول تبصرا، كما في تأسيس القواعد للشيخ زروق، وكتاب التعادل والترجيح من نشر البنود على مراقي السعود لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وغيرهما” الصوارم والأسنة 259-260.
وهذا البيان الذي يدل على جودة النظر، ودقة التصور من العلامة الشنقيطي رحمه الله راجع إلى أن العلماء “وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم” مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 20/224، وانظر كتاب الروح لابن القيم رحمه الله 357، وإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني رحمه الله 105.
فالحذر الحذر من المفهوم الباطل للتمذهب الذي سار عليه بعض الناس قديما وحديثا لتكريس التعصب الممقوت، والدعوة إلى التقليد الأعمى الذي لا يرتضيه الأئمة الأعلام رحمهم الله9، حتى ابتليت الأمة بالتفرق والتباغض والحقد نسأل الله السلامة والعافية، فإن المذهب لا يعدو أن يكون تقريرات رجال واستنباطات لهم يعتريها الخطأ والصواب 10، وإن ارتفعت مكانتهم، وعلت منزلتهم.
ولذا قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “إن تحكيم الرجال، من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال، ولا توفيق إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غيره” الاعتصام 2/ 460 تحقيق مشهور حسن الطبعة الثانية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
……………………..
1. انظر “معايير التأويل والمتأولين للعامة والمقصرين والمجتهدين” لأبي عمرو الحسيني 40.
2. انظر رسالة عودة إلى السنة لعلي حسن الحلبي 47 و 65.
3. انظر نشر البنود على مراقي السعود 2/276، ونثر الورود على مراقي السعود 2/ 584، ومدارج الصعود إلى مراقي السعود 433، والصوارم والأسنة 260.
4. المراد به هنا المتبع كما هو واضح من السياق وراجع الحاشية 3 من الحلقة السابقة.
5. أي: يعتبر نظره أو لا استقلالا، فتنبه.
6. قال الإمام ابن حزم رحمه الله:”.. ويحكون أيضا عن ابن وهب أنه قال: (الحديث مضلة إلا للفقهاء، ولولا مالك والليث لضللنا) قال ابن حزم: وهذا بعيد جدا عن ابن وهب أن يقول مثل هذا الكلام الباطل القبيح الجامع للبلاء، الناقض لعز الإسلام.
وليث شعري إذا كان الحديث الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مضلة ، فأين المهداة؟ أفي الاستحسان والرأي يُحرّم بها في دين الله تعالى ويحلل، وتُفرض بها الفرائض، وتسقط بهما الشرائع، وتحدث بها الديانة، ويحكم بها على الله عز وجل؟! إن هذا لهو الضلال المبين” الرسالة الباهرة 5. قلت: وكلام ابن حزم رحمه الله متعقب، فالأثر وارد عن ابن وهب رحمه الله، ومشهور عن سفيان بن عيينة رحمه الله ومعناه كما ذكرناه أعلاه نقلا عن العلماء والفقهاء.
7. فتنبه إلى هذا القيد.
8. الأكثرية هنا غير مقصودة، وإنما العبرة بكون القول قال به عالم مجتهد ولو كان واحدا، وورود لفظة الأكثرية في كلام الشنقيطي رحمه الله لأنه كان يتكلم عن مسألة فقهية معينة كان قول الأكثرية فيها موافقا للدليل فتأمل.
9. قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: “..وكل من تعصب لإمام ولم يسر على سيرته فذلك الإمام هو خصمه ومن جملة الموبخين له” الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/155.
10. فالتعصب للمذهب عند تحقق الخطأ بدعوى أن هذا المذهب هو الأحب والأفضل عند الله مطلقا من قبيح المنكرات، حتى قال الإمام الذهبي رحمه الله: “فلا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب، وأحبها إلى الله تعالى، فإنك لا دليل لك على ذلك، ولا لمخالفك أيضا، بل الأئمة رضي الله عنهم على خير، ولهم في صوابهم أجران على كل مسألة، وفي خطئهم أجر على كل مسألة” زغل العلم له 16.