مر معنا في الحلقة الأولى أهمية التعرف على الخلاف الفقهي لتحقيق الأقوال وتحرير المسائل سواء في رياض المذاهب عموما، أو في ساحة المذهب الواحد، ولذا رأينا بمناسبة هذا الأخير كأنموذج اهتمام فقهاء المالكية بذلك، إلا أن معرفة الخلاف لا بد أن يراعى فيها جملة من الضوابط التي تضبط للمرء نظره في فقهيات كشف عنها أهل العلم رحمهم الله، ومنهم أرباب المذهب المالكي وأهم ذلك:
أولا: تحرير محل الخلاف ومجاله
من المهمات عند الخلاف الفقهي خاصة تحرير محل النزاع، وتحديد مجاله، وضبط صور المسائل، ذلك “لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد يقال: الحكم على الشيء ردا وقبولا فرع عن كونه معقولا” كما قال محمد الخضر الجكني الشنقيطي المالكي رحمه الله في كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري 1/113.
يقول ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول إلى علم الأصول:
أول ما تدركه تصور وعنه تصديق له تأخر
فأول إدراك معنى مفرد والثان الإدراك لحكم مسند
وهذا التصور للمسائل يعرف عند الأصوليين بالمقدمة العقلية أو بتحقيق المناط العام الذي قال عنه الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله” الموافقات 4/ 95.
وبمراعاة ذلك يسلم المتفقه عموما من الوقوع في المتشابه كما قال الشاطبي المالكي رحمه الله: “..كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه” الموافقات 5/ 341.
ثانيا: تحرير الخلاف لا مجرد حكايته
حكاية مجرد الخلاف دون تحريره وتحقيق الصواب من ذلك في مجاله1 يجعل المتفقه في حيرة، وربما ظن اشتباه الشرع وصعوبة درك الحق وطلبه، فهذه الطريق لا يحصل بها بيان، بل هي إلى التعمية وتوعير الطريق أقرب.
قال الشاطبي المالكي رحمه الله في هذا الصدد: “وكلام الناس هنا كثير وحاصله معرفة مواقع الخلاف2 لا حفظ مجرد الخلاف” الموافقات 4/162.
وقد أدى هذا الطرح للفقهيات في بابه إلى ما يسمى عند أهل الشأن بـ “التعليل بالخلاف”3 مطلقا وهو ممنوع كما قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله: “الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله” جامع بيان العلم 2/89.
وقد قرر هذا كذلك الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله حيث قال: “وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر”.
إلى أن قال رحمه الله: “وهذا عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة” الموافقات 4/141.
ومنه يتبين الخطأ الذي جرى عليه عمل بعض المشتغلين بالعلم من إيراد مسائل الخلاف وحكايتها وسرد الأقوال فيها ونسبتها إلى أصحابها، وربما ذكر أدلة كل قول دون تحقيق لذلك مع أن المقام يستوجبه، ومن غير بيان للراجح من المرجوح والقوي من الضعيف على أن نوع ذاك الخلاف يتعين فيه ذلك.
ثالثا: طرح الأقوال الضعيفة
الواجب طرح الأقوال الضعيفة4 لضعف أدلتها أو وجه الاستدلال منها في عموم المذاهب وكذا في المذهب الواحد ومن ذلك المذهب المالكي حتى قال الإمام القرافي المالكي رحمه الله فيما نقل عنه السنوسي المالكي رحمه الله في الإيقاظ: “لا يجوز تقليد إمام في مسألة ضعف مدركه فيها ولو لمقلده في غيرها، فالمالكي لا يجوز له تقليد مالك في حكم ضعف مدركه فيه وإنما يقلده فيما وافق الدليل أو قوي دليله على دليل غيره امتثالا لقوله: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، وكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)..” نقلا عن الصوارم والأسنة في الذب عن السنة للعلامة الشنقيطي رحمه الله ص: 246.
وقال كذلك رحمه الله: “كل شيء أفتى فيه مجتهد فخرجت فتياه على خلاف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله” الفرق 78 من كتابه الفروق.
إذن طرح الأقوال الضعيفة متعين إلا أن التعصب المقيت فعل في أصحابه ما فعل، حتى قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في معرض الكلام عن أناس ينتسبون إلى مذهب مالك رحمه الله: “صار التقليد ديدنهم، والاقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم، دفعوا في صدره، وحقروا من أمره، إلا أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علوم على رسم التبعية.. فإن ظهر عندهم من له معرفة، أوجاءهم بفائدة في الدين وطريقة من سلف الصالحين، وسرد لهم البراهين، غمزوا جانبه وقبحوا عجائبه، وعيبوا حقه استكبارا وعتوا، وجحدوا علمه وقد استيقنته أنفسهم ظلما وعلوا، وسعوا في إخمال ذكره، وتحقير قدره، وافتعلوا عليه، وردوا كل عظيمة إليه” العواصم من القواصم 366-369، طبعة عمار الطالبي 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ومناسبة هذا القيد للاحتراز عن المصنفات التي صنفت وغرض أصحابها حكاية الأقوال واستيعابها فحسب وإلا الأصل هو الترجيح وفق الأدلة الشرعية والقواعد المرعية، فرارا من المنهج التجريدي في الفقهيات الذي عابه الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله على كثير ممن سلكه من المتأخرين في غير بابه فقال عنهم: “طرحوا علم السنن والآثار وزهدوا فيها، وأضربوا عنها، فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف، بل عولوا على حفظ ما دون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم فيه، ويودون أن حظهم السلامة منه” (جامع بيان العلم 2/170).
2. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذا الصدد: “..فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تُنبِّه على الصَّحيح منها، وتُبطل الباطل، وتذكر فائِدة الخلاف وثمرته، لئلاَّ يطول النزاع والخلاف فيما لا فائِدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم” مقدمة تفسيره 1/10.
3. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا يعتد به بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام، أو وجها ذهب إليه جماعة، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال، حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به، فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح وهذا حرام باتفاق الأمة” إعلام الموقعين 4/211.
4. الأصل هو طرح الأقوال الضعيفة والشاذة حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والمسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من الأئمة المسلمين لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن في ذلك ضربا من الطعن في الأئمة بإتباع الأقوال الضعيفة” الفتاوي 32/147.
هذا وإن كان القول الضعيف يذكره العلماء في كتبهم لكن “للتنبيه عليه وعلى ما فيه لا للاعتداد به” كما قال الشاطبي المالكي رحمه الله في موافقاته 4/173.
5. هذه الفقرة من كلام أبي بكر بن العربي المالكي رحمه الله توجد في النص الكامل لكتاب العواصم طبعة عمار الطالبي وهي أحسن الطبعات فيما نعلم للنص الكامل للكتاب حيث اعتمد فيها على أربع مخطوطات، بخلاف طبعة العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله وإن كان نصها كاملا في جزئين إلا أنه اعتمد في تحقيقها على نسخة يتيمة فقط مخطوطة بجامع الزيتون، وعليه فالفقرة أعلاه من كلام ابن العربي رحمه الله لا توجد في طبعة الشيخ الأديب محب الدين الخطيب لأنه رحمه الله لم ينشر من النص الكامل للكتاب إلا المبحث الخاص بالصحابة رضوان الله عليهم، ومع أن الخطيب رحمه الله نبه على هذا في المقدمة إلا أن كثيرا من الباحثين ظنوا طبعته هي الكتاب بصورته الكاملة.