مر معنا أن المحققين من العلماء أصلوا أصلا في خصوص المذاهب الفقهية؛ وهو أنها عموما وإجمالا ليست إلا مذهبا واحدا متفرعا، وكيف لا وهي كلها نابعة من عين واحدة هي عين شريعته صلى الله عليه وسلم المطهرة، ومتفرعة من أغصان شجرتها الطيبة المثمرة، فأقيم بذلك بنيان شامخ تتوالى درره، وتتلألأ أنواره وتتفرع أغصانه وتتكاثر أفنانه.
وإن من أعمدة ذلك البناء الشامخ وأحد تلك الأثافي مذهب الإمام العلم أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي؛ إمام دار الْهجرة وَعالِم الْمدينةِ؛ وهو مِن تابعي التّابِعِينَ عليه رحمة رب العالمين.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله عن حديث: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل(2) في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)(3): فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك.
والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان: أحدهما: الطعن في الحديث؛ فزعم بعضهم أن فيه انقطاعا. والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه.
فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر(4) لمن كان موجودا، وبالتواتر لمن كان غائبا، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك، وهذا يقرر بوجهين:
أحدهما: بطلب تقديمه على مثل الثوري والأوزاعي والليث وأبي حنيفة، وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام.
والثاني: أن يقال: إن مالكا تأخر موته عن هؤلاء كلهم، فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك. فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر. وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك، لا قبله ولا بعده..” (تفضيل مذهب الإمام مالك وأهل المدينة وصحة أصوله 65-66).
وبكل حال فلا ريب عند أحد أن مالكا رحمه الله: أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه وكان له من المكانة عند أهل الإسلام الخاص منهم والعام؛ ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، ذلكم لأن لمذهب أهل المدينة الدرجة العلية والمنزلة السنية، وكيف لا والمدينة هي دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة، وفيها سن الله لرسوله عليه الصلاة والسلام سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومذهبهم عموما في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا، في الأصول والفروع.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة، وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد” (تفضيل مذهب الإمام مالك وأهل المدينة وصحة أصوله 71).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: “وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره:
أحدها: طول العمر وعلو الرواية.
وثانيها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
وثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية.
ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن.
وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده” (تذكرة الحفاظ 1/212).
ويمكن لمتبع مذهب الإمام رحمه الله بعد تحرير الأقوال وفق المسالك العلمية والقواعد المرعية “أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة إلا وله قول يوافقها؛ بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة فإنهم كثيرا ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك” (تفضيل مذهب الإمام مالك وأهل المدينة وصحة أصوله 71).
وعموما “فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه ” (سير أعلام النبلاء 8/62).
فالمذهب المالكي -إذن- كغيره من المذاهب الفقهية لا يمكن أن يكون قد قام على فراغ، بل لا بد أن يكون قد أسس على أصول ثابتة وضوابط متينة، وهذا تفرضه ضرورة قيام فقه متماسك منظم، وبدون ذلك لا يمكن أن يقوم مذهب فقهي خاصة إذا كان من المذاهب المتبعة والذي تمذهب به طائفة من العلماء والفقهاء الأجلاء بعدما التفوا حوله وانتصروا له(5).
وليعلم أن الأصول التي بني عليه المذهب المالكي لم يصرح بها الإمام مالك رحمه الله وإنما تقريرها تم على يد أتباعه بعد عملية التتبع والاستقراء، إلا أن الإمام عليه الرحمة قد ألمح إلى الدعائم التي يقوم عليها مذهبه ومرجعها إلى أمرين اثنين: الأخذ بالنقل والأثر، واعتبار العقل والنظر.
قال ابن وهب رحمه الله: قال لي مالك: الحكم الذي يحكم به بين الناس حكمان:
– ما في كتاب الله أو أحكمته السنة، فذلك الحكم الواجب الصواب.
– والحكم الذي يجتهد فيه العالم برأيه فلعله يوفق” (جامع بيان العلم وفضله 2/25، والبيان والتحصيل 2/25).
فالمرجع الأول: ما يكون الاعتماد فيه على المنقول، ولا شأن للمجتهد في تكوينها وإيجادها، وهي الأساس في البناء كالقرآن والسنة والإجماع وغيرها.
والمرجع الثاني: هو ما له تعلق بالعقل الفقهي للمجتهد ونظره؛ بحيث يكون له دخل في تكوينها مع التنبه أنها ليست بمنفصلة عن المرجع الأول وإنما هي مركبة عليه أو مساعدة له بوجه من الوجوه الصحيحة.
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه؛ لا مستقلة بالدلالة، لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع ” (الموافقات 1/23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. وعطف مذهب أهل المدينة على مذهب الإمام مالك من باب عطف العام على الخاص.
2. أكباد الإبل: هو كناية عن إسراع الإبل وإجهادها في السير. انظر تحفة الأحوذي 7/373.
3. رواه الترمذي والنسائي في الكبرى والحاكم وابن حبان وصححاه، وكذا الإمام الذهبي، حسنه الترمذي، وصحح إسناده العلامة أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه للمسند 15/135، وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في تحقيقه للمشكاة 246، وفي تعليقه على التنكيل 1/385، وكذا في الضعيفة 4833، وضعيف الجامع 6448، وانظر تضعيفه كذلك النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة لأبي إسحاق الحويني 41، وأعله من ضعفه بابن جريج وأبي الزبير وهما مدلسان ولم يصرحا بالتحديث.
وننبه في هذا المقام على أن القول بثبوت الحديث لا يلزم منه بحال التعصب للإمام فيما خالف فيه الحق المبين فلا تكن من الغافلين.
4. قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: “والأصل أن الكلام إذا قاله صاحب الاستقراء، فإنه يسلم له بدليله، وإن أطلقه بلا دليل صار في دائرة الإمكان ولا نبادره بالإنكار” 1/43.
5. ” ونصرة المذهب لم تكن تمنع من مخالفة صاحبه إذا كان الحق في غير قوله، لأن إتباع أتباع المذاهب الأولين كان لقوة دليل القول لا لقائله ولمجموع أدلة المذهب وأصوله لا لأحادها التي قد لا تظهر له حجة فيها، وقد كان هذا شأن ابن القاسم وابن الماجشون وابن كنانة وابن وهب وغيرهم مع مالك…” مقدمة دراسة كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك للأستاذ أحمد بن محمد البوشيخي 1/125.