يحسن بنا ونحن نتكلم في هذه الرحاب عن المذهب المالكي أن نسلط الضوء عموما على جملة من المعالم العامة التي تميزت بها منهجية الإمام مالك رحمه الله في العلم والفقه والفتيا حتى يكون ذلك نبراسا في فهم المذهب المالكي بحق، ومن ذلك: ابتناء الفقه عند الإمام مالك رحمه الله على الأحاديث النبوية والآثار السلفية كما هو واضح من كتابه الموطأ والذي يعد اللبنة الأولى والأساس في المذهب المالكي خصوصا.
ذكر الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في “المحاضرات” 386 أن الذي “يتأمل الموطأ تأملا شافيا، يتبين له أن مالكا يعتبر الأحاديث أساسا لا يبنى الفقه إلا عليها، فلا يمكن أن يبنى الفقه على غير سنة، ولا يمكن أن يبادر إلى إقامة الفقه على قياس إلا عند الضرورة..”.
وقد أظهر الإمام مالك رحمه الله طريقته التي سار عليها في الرواية في كتابه الموطأ فأثبت فيه أحسن ما صح عنده من الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أثر عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم، مما يرجع إلى تلقي المأثور من عمل رسول الله عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين، وقضاة العدل وأئمة الفقه.
قال الإمام رحمه الله عن كتابه: “فيه حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقول الصحابة والتابعين ورأي، وقد تكلمت برأي وعلى اجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج من جملتهم إلى غيره” ترتيب المدارك 2/73.
ومع أن المرجع الأساس في المذهب المالكي كتاب الموطأ إلا أن بعض أتباعه خاصة المتأخرين منهم لم يبنوا فقههم عليه في مسائل كثيرة، ولم يعملوا بما فيه من أحاديث وآثار في أمور متعددة، حيث انصرفوا عنه إلى كتب الفروع والخلافات، التي ألفها شيوخ المذهب أمثال سحنون، وعبد الملك بن حبيب، والعتبي وغيرهم رحمهم الله جميعا.
هذا على أن ما صنفه هؤلاء الشيوخ من الأهمية بما كان، ولا نعني بما ذكرنا طرح هذه الكتب وهدم بنائها، وإنما القصد تعظيم الدليل والاحتجاج به وتقديم كتاب الموطأ عليها لما سبق بيانه في منهجية الإمام فيه، خاصة عند التعارض بينه وبينها، فعلى سبيل المثال إذا أخذنا كتاب المدونة الذي يقدم على غيره من الكتب الفقهية المالكية حتى اعتبر الأصل الثاني للفقه المالكي بعد الموطأ فهو ليس من تأليف مالك رحمه الله، وإنما هي مجموعة مسائل وفروع الفقهية جمعها أولا أسد الفرات رحمه الله عندما ذهب إلى العراق واتصل بتلاميذ الإمام أبي حنيفة فدون عنهم ما سمع من المسائل الفقهية على طريقة المدرسة العراقية، ثم بعد ذلك ذهب إلى مصر فلقي أصحاب الإمام مالك، وكان من بينهم عبد الرحمن بن القاسم العتقي فعرض عليه ما سمع في العراق من الفروع الفقهية، ثم صار يجيبه عنها على مذهب الإمام مالك حسبما سمع من مالك أو اجتهاد منه، حسب أصول المذهب المالكي، هذه هي أصل المدونة.
ثم رجع بعد ابن الفرات بمدونته إلى بلاد تونس، فأصبح ينشرها بين الناس، فصاروا ينكرون عليه ما سمعوا منه ويقولون له جئتنا بأخال، وأظن، وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف. انظر ترتيب المدارك 8/296 فما بعدها.
وأخذ الفقيه سحنون هذه المدونة وعاد بها إلى مصر، فعرضها على ابن القاسم رحمه الله، وأصلح فيها مسائل، وكانت فيما قبل غير مرتبة ولا مبوبة، فرتبها سحنون وبوبها، واحتج لبعض مسائلها بالآثار، وبعض الأحاديث ثم رجع بها إلى القيروان(1). انظر مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي 1/119-120-121.
فإذا كان ما ذكرناه هو في حق المدونة التي قال عنها بعضهم فيما نقله ابن رشد رحمه الله في مقدماته1/44: “ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك رحمه الله، ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة” فكيف الحال مع غيرها من كتب الفقه المالكي التي قدمها البعض على ما في الموطأ مع أنها قامت على بسط الفروع الفقهية مجردة عن أي نوع من أنواع الأدلة، والاحتجاج بها في مقابل النص.
قال الحجوي رحمه الله: “..وغالب هذه الكتب التي يفتى منها، سرد الفروع بدون دليل، إلا ما كان من الموطأ وشروحه والمدونة، وإني ليأخذني العجب عند مطالعة فتاوى المتأخرين يأتون بالحكم موجها بتوجيه فكري ساذج من غير استدلال عليه بنص من نصوص المتقدمين، وهكذا فروع تجدها عند الزرقاني شارح خليل وغيره، وتجد الناس يتلقون ذلك بغاية الارتياح والقبول، ولو أن أحدا أفتى بكتاب أو سنة أو قياس لقامت القيامة ورفعت النعال إليه فإنا لله وإنا إليه راجعون..” نقلا عن كتاب “الفقيه عبد الواحد بن عاشر حياته وآثاره الفقهية” ص: 164، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة 1428ه- 2007م.
فحري بالمالكية أن يعظموا السنة والآثار كما كان إمامهم رحمه الله، ومن مظاهر ذلك تقديم ما في الموطأ على غيره عند التعارض خاصة كما توجبه القواعد الأصولية والحديثية وجملة ذلك كالآتي:
1 – لأن الموطأ كتبه الإمام مالك بيده، ونقحه مدة أربعين سنة، بخلاف غيرها من كتب الفقه المالكي.
2 – أن الموطأ رواه عن الإمام مالك عدد كبير من العلماء، فهو منقول بالتواتر، والأصل الثاني في المذهب مثلا وهو المدونة ليس كذلك فضلا عن غيره، بل انفرد به ابن القاسم.
3 – أن من جملة رواة الموطأ أصحاب مالك المدنيون، وهم الذين لازموه إلى وفاته رحمه الله، وابن القاسم رحمه الله الذي بنيت المدونة على روايته فارق مالكا قبل مماته بعشرين سنة، والملازم للشيخ مقدم على المفارق له.
4 – أن أقوال الإمام مالك في الموطأ، مصحوبة بدليلها من آية أو حديث أو أثر كما بيناه أعلاه، أما الأقوال المنسوبة إليه مثلا في المدونة فأكثرها عارية عن الدليل.
أنظر “مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي” 1/139، ومجلة” دعوة الحق” الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية العدد: 8 سنة: 17 ص:133.
هذا مع الإشارة إلى أن الاعتماد في الفقه المالكي على الكتب القائمة على الأدلة الشرعية كالموطأ تصيره قويا عصيا على الأعاصير.
يقول الأستاذ محمد المعتصم: “بقي الفقه المالكي منذ دخل المغرب قويا عصيا على الأعاصير حين كان قائما على الأصول المعتبرة في المذهب كالموطأ وما إليه من المؤلفات القديمة، التي كانت تستمد من الكتاب والسنة وما إليهما من الأصول المعتبرة عند العلماء في مشارق الأرض ومغاربها..” نقلا عن كتاب “الفقيه عبد الواحد بن عاشر حياته وآثاره الفقهية” ص:39، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة 1428ه- 2007م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – “فالمدونة التي بين أيدينا هي ثمرة مجهود ثلاثة من الأئمة: مالك بإجاباته، وابن القاسم بقياساته وزياداته، وسحنون بتهذيبه وتنقيحه وتبويبه، وبعض إضافاته..” مباحث في المذهب المالكي بالمغرب للجيدي 66.
2 – قال الشيخ محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني رحمه الله في كتابه ” سلفية الإمام مالك” ص:143 ملحق بكتاب “الإمام مالك” لمحمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله عند كلامه عن اتباع مالك رحمه الله لآثار من مضى:”ولعنا في حاجة إلى كلمة حول هذا الاتباع لآثار من مضى، إذ إن ذلك هو جوهر السلفية”.