المعالم العامة لمنهج الإمام مالك في العلم والفقه والفتيا اللمع في ترك الإمام الفتوى في الأمور التي لم تقع أبو أويس الإدريسي

من مزايا الإمام مالك رحمه الله في الفتوى حرصه على عدم الإفتاء إلا فيما وقع، وتركه للمسائل والحوادث التي لم تقع، وهو في ذلك على منوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وعلى ما درج عليه شيوخه الذين عرفوا بذلك.

قال الناظم مشيرا إلى ذلك في حقه رحمه الله:
ثم يجيب كل من قد سأله *** وحيث لا فلا يجيب مسأله
وفي اثنتين وثلاثين امتنع *** من الجواب في سؤال قد وقع
وأصل ذلك قوله عليه الصلاة السلام: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم: كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم” رواه مسلم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله عند هذا الحديث: “..إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر” جامع العلوم والحكم 100.
وعن مسروق قال: “سألت أبي بن كعب عن شيء، فقال: إن كان بعد؟ قلت: لا، قال: فأجمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا” أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/343، وغيره.
وسأل ميمون ابن عباس عن رجل أدركه رمضانان، فقال: “أكان أو لم يكن؟ قال: لم يكن بعد، قال:أترك بلية حتى تنزل..” سنن الدارمي 156.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “أحرج عليكم أيها الناس أن تسألونا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا” الفقيه والنتفقه 2/7.
وهذا معاذ رضي الله عنه كان يقول: “يأيها الناس لا تسألوا عن البلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا، وإنكم إن لم تسألوا لم تبتلوا، فإنه لا ينفك أن يكون في المسلمين من إذا قال وفق” أخرجه ابن بطة في الإبانة293.
وعليه قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “كان علماء السلف رضي الله عنهم لشدة ورعهم إذا سئلوا عن شيء يقولون: أوقع هذا؟ فإن لم يكن وقع، قالوا: دعونا حتى يقع” تعظيم الفتيا 79.
ومن شيوخ مالك رحمة الله على الجميع الذين عرفوا بذلك محمد بن مسلم بن شهاب الزهري سأله عبد الملك بن مروان عن شيء، فقال له: “أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، قال: فدعه، فإنه إذا كان أتى الله بفرج”. جامع بيان العلم وفضله 2/175.
وهكذا كان إمام دار الهجرة رحمه الله يسير على هذا المنهاج الأثري، حيث كان مقررا منذ نزول الوحي.
فكان رحمه الله إذا سئل عن مسألة يقول للسائل: أوقعت؟ فيقول له: لا، فيقول: أنظرني حتى تقع.
وما ذلك منه رحمه الله إلا لكثرة خوفه من الله تعالى، والحياء منه أن يراه يفتي بغير مراده سبحانه. انظر انتصار الفقير السالك 186.
ولما كان تلاميذه يفترضون المسائل كأنها واقعة ليجيب عنها لا يكاد يجيب رحمه الله.
قال ابن القاسم رحمه الله:” كان مالك لا يكاد يجيب، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها، كأنها مسألة بلوى، فيجيب فيها” ترتيب المدارك 1/191.
لكن مما هو واضح في صناعة الفقهاء افتراض بعض المسائل غير الوااقعة(1)…، بل ذكر لذلك جملة من الفوائد الوجيهة وهي كالآتي:
1- توضيح القواعد للطلبة، وبيان الأدلة لهم، وتنمية ملكة الاستنباط لديهم، وتدريبهم على الاجتهاد في النوازل. انظر الآداب الشرعية 2/71.
2- بيان أحكام الشريعة لمن يأتـي بعدهم، حيث يقل العلم ويفشو الجهل (2). انظر سبل السلام 4/343.
3- وقوع أعمال الناس على وفق الصواب لمعرفتهم الحكم قبل الحادثة. انظر جامع العلوم والحكم 1/251.
قال ابن رجب رحمه الله :” وقد كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أحيانا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها 3، لكن للعمل بها عند وقوعها” جامع العلوم والحكم 1/343.
بل نص الخطيب رحمه الله عند ذلك على أنه إجماع من الصحابة حيث قال في الفقيه والمتفقه 2/22: “وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهما من الصحابة أنهم تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزولها، ..وتبعهم على هذا السبيل التابعون، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، فكان ذلك إجماعا منهم على أنه جائز غير مكروه ومباح غير محظور”.
ومن ثم فما وجه ما نقل عن السلف وعن إمامنا مالك رحمه الله مما يخالف هذا كما مر؟
الجواب:
1- أن النهي عن ذلك في العهد النبوي إنما كان خشية أن ينزل ما يشق على الناس، وقد زال المحذور بعد. نقله في الفتح 13/278 عن ابن العربي المعافري رحمه الله.
2- أن ما نقل عن السلف فيما يخص رفضهم لذلك محمول على التهيب من الاجتهاد فيما لا نص فيه، خشية الزلل. انظر الفقيه والمتفقه 2/22.
3- ذلك محمول على حالة السؤال على وجه التعنت والمغالطة، ولم يقصد به التفقه، أو كان الدافع إليه التنطع، أو الحامل عليه الفراغ والفضول والانشغال بما لا يعني. انظر الفتح 13/281، والموافقات 5/387.
وكل هذا وجيه والأولى منه والأصح والله أعلم الوجه الرابع -باعتبار أن ما سبق من الأجوبة يشمل ما نتكلم عنه وغيره-.
4- أن ما كان فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو أثر عن الصحابة رضي الله عنهم وإن لم يقع بعد لم يكره الكلام فيه (4)، أما إذا لم يكن فيها شيء من ذلك وكانت غير بعيدة الوقوع فلا بأس كذلك من الكلام فيها وهذا معنى قول العلماء: “المتوقع كالواقع”، أي: القريب الوقوع وإلا البعيد فيكره الكلام فيه فضلا عن الأمور التي لا يمكن وقوعها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لاسيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى ، والله أعلم” إعلام الموقعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. على أن بعضهم قد بالغوا في ذلك، وافترضوا المسائل البعيدة الوقوع وربما غير الممكنة الحدوث كما هو معلوم عند أهل الشأن.
2. مع أن هذا لا يغني عن نظر أهل العلم الذين نزلت فيهم النازلة، لكونهم أدرى بحيثياتها وملابساتها، لكن استصحاب ما نقل عن الفقهاء قبل يعين على صحة التصور فتأمل.
3. بل ورد ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة كما في حديث: “إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها” أخرجه أحمد وأصله في الصحيحين.
4. ذلك لأن الصحابة ما كان الواحد منهم يتكلف الكلام عن الأمور البعيدة الوقوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *