تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة الأولى- رشيد مومن الإدريسي

لا يتصور بحال أن يقوم صرح متين دون بنائه عموما على أصول متينة ومن ذلك مذهب المالكية إذ هو فرع من دوحة الشرعة المحمدية، ولفظة الأصول جمع أصل والمراد به لغة: ما يبنى عليه غيره سواء كان الابتناء حسيا كابتناء السقف على الجدران، أو معنويا كابتناء الحكم على دليله.

يقول الناظم:
والأصل ما عليه غيره بني *** والفرع ما على سواه ينبني
واصطلاحا يطلق ويراد به: القاعدة المستمرة، أو الرجحان، أو الاستصحاب، أو الدليل، والأوفق بالمقام الذي نحن بصدده أن المراد به الدليل؛ ولذا قال الفقيه راشد فيما نقله عنه التسولي رحمهما الله في شرح التحفة 2/133: “الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه (ثم ذكرها)”.
وعليه فأصول المالكية المراد بها الأدلة العامة التي يستند إليها في التوصل إلى حكم شرعي، هذا وإن كان معنى المذهب هو الطريقة في الاجتهاد، فإن الاجتهاد هذا مرتبط بتلكم الأصول فتنبه.
ومن المهم معرفته أن “البحث في أصول مذهب ما تجده في مواضع من كتب ذلك المذهب، لا سيما شروحه، وبعض مقدماتها، والبحث في أصول المذاهب الأربعة هو اللباب في كتب أصول الفقه وكلما كان المؤلف في الأصول من أهل المذهب، كان ألصق بتحقيق أصول مذهبه” (المدخل المفصل للشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله 1/149).
وللمالكية في هذا القدح المعلى، فلهم في: “أصول الفقه” الكثير من المؤلفات التي لا تعد إلا بكلفة من ذلك: اللمع في أصول الفقه لعمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي المالكي رحمه الله، وأصول الفقه لمحمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري المالكي رحمه الله، والإفادة في أصول الفقه لعبد الوهاب بن علي البغدادي المالكي رحمه الله، والإشارة في أصول الفقه لسليمان بن خلف القرطبي المالكي، في آخرين من الكتب أنظرها في كشف الظنون لحاجي خليفة رحمه الله.
وأدلة المذهب المالكي متنوعة ومستقاة من طريقة الإمام مالك رحمه الله في الاستنباط استفادها تلامذته من خلال مؤلفاته، ورسائله، وفتاويه حاصرين بذلك الأصول التي يعتمد عليها في اجتهاده واستدلاله بناء على التتبع والاستقراء، وهذا يؤكد أن الإمام مالك رحمه الله لم يدون هذه الأصول. (انظر الفكر السامي للحجوي رحمه الله 1/387).
على أن الجيدي في كتابه “مباحث في المذهب المالكي بالمغرب” ص:255 نقل عن أبي بكر بن العربي المعافري رحمه الله أنه يرى أن الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ سطر وبين أصول الفقه وفروعه.
والجيدي يشير إلى ما ذكره ابن العربي رحمه الله في كتابه القبس(1) وهو كذلك في كتابه المسالك في شرح موطأ مالك 1/330 حيث يقول: “اعلموا أن مالكا رحمه الله إمام من أئمة المسلمين، وأن كتابه أجل الدواوين، وهو أول كتاب ألف في الإسلام(2)، لم يؤلف مثله لا قبله ولا بعده، إذ قد بناه مالك رحمه الله على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على علم عظيم من معظم أصول الفقه التي ترجع إليه مسائله وفروعه”.
قال الجيدي: “والحق أن الإمام لم يصرح بأنه التزم فيما كان يستنبطه من أحكام أصولا وقواعد اعتمدها أساسا في الاستنباط والاستنتاج، إلا ما يفهم من صنيعه في اعتماده على الأصلين، وعمل أهل المدينة، وما يستشف من عمله في الموطأ من أنه كان يعتمد أحيانا على القياس، إلا أن عمله هذا يبقى دون إعطاء منهجية واضحة المعالم، تنهض دليلا على ما ذهب إليه ابن العربي في القبس، وعياض في المدارك، ومن ثم يجوز القول بأن ذلك يبقى من عمل أتباعه الذين جاءوا إلى الفروع فتتبعوها، ووازنوا بينها، فاستنبطوا منها ما صح لديهم أنه دليل قام عليه الاستنباط، فدونوا تلك الأصول وأضافوها إلى الإمام مالك تساهلا، فقالوا كان مالك يأخذ بكذا، ويستدل بكذا، وهي -كما علمت- ليست أقوالا له رويت عنه وإنما هي من عمل أتباعه الذين حددوها بناء على ما فهموه من طريقته في استنباط الأحكام، وما دونه من فتاوى ومسائل، وجمعه من أحاديث، وما أثر عنه من أقوال وآراء” (مباحث في المذهب المالكي بالمغرب 255)
أما بالنسبة لتعداد هذه الأصول فقد اختلف المالكية في ذلك، فالحافظ ابن العربي المعافري رحمه الله عدها عشرة حسبما يفهم من نقل ابن هلال رحمه الله في نوازله، والقاضي عياض رحمه الله لم يذكر منها إلا أربعة كما في المدارك 1/69.
ولما قسم الإمام القرافي رحمه الله الأدلة من حيث مشروعيتها ومن حيث وقوعها، قال: إنها تسعة عشر بالاستقراء كما في تنقيح الفصول 445، أما الفقيه أبو محمد صالح رحمه الله فقد عدها ستة عشر أصلا فيما نقله عنه تلميذه راشد بن أبي راشد الوليدي رحمه الله كما في البهجة في شرح التحفة للتسولي رحمه الله 2/133، وانظر الفكر السامي للحجوي رحمه الله 1/385.
وذكر السبكي رحمه الله في الطبقات أن أصول مذهب مالك تزيد عن خمسمائة والظاهر أنه رحمه الله يقصد القواعد الفقهية التي استخرجت من فروعه المذهبية(3) وإلا فإن أصول المالكية لا تصل إلى هذا الحد كما ذكره الجيدي في مباحث في المذهب المالكي 257.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ذلك لأن ابن العربي المعافري رحمه الله استوعب في كتابه المسالك أغلب ما في كتابه القبس، وأضاف عليه إضافات كثير، وعليه فكتاب القبس هو بمثابة المختصر لكتاب المسالك.
2. هذا على ما هو مشهور وفي رأي ابن العربي رحمه الله وإلا فالمسألة مختلف فيها وفي ذلك قال ابن العربي المعافري نفسه رحمه الله: “اختلف الناس أي كتاب وضع في الإسلام أولا على ثلاثة أقوال:
القول الأول قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام، وقرئ على الناس موطأ مالك بن أنس وهو قول جماعة كثيرة..
والقول الثاني قيل: إن أول كتاب ألف في الإسلام جامع سفيان الثوري ثم ندم على ذلك وأوصى إلى عمار بن يوسف أن يحرق كتبه، فبقيت في أيدي الناس.
والقول الثالث قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في التاريخ والتفسير أيضا.
والذي اشتهر خبره عند الناس، أن أول كتاب ألف في الإسلام الموطأ لمالك رضي الله عنه” المسالك 1/341-342
3. والظاهر أن يشير -والعلم عند الله- إلى قول القرافي في خصوص القواعد الفقهية وهو يتحدث عن محتوى كتابه الفروق حيث قال: “وجمعت فيه من القواعد خمسمائة وثماني وأربعين قاعدة أوضحت كل قاعدة بما يناسبها من الفروع” الفروق 1/4.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *