تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك الحلقة السادسة رشيد مومن الإدريسي

من الأصول الإجمالية التي يقوم عليها مذهب الإمام مالك رحمه الله مفهوم الموافقة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وهو الدليل الرابع من أدلة المذهب على قول أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي؛ حيث قال في نظمه:
ومن أصوله التي بها يقول —— تنبيه قرآن وسنة الرسول
وسمي بمفهوم الموافقة “لكون المعنى المسكوت عنه موافقا للمعنى المنطوق به في الحكم” إيصال السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 34.
وفيه قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 247؛ شرحه :
وهو الذي المسكوت عنه حكمه ——- من جهة المنطوق باد فهمه
ويسمى بتنبيه الخطاب “لأن السامع يتنبه عند الخطاب بالمعنى المنطوق به وحده إلى دلالة اللفظ على معنى غير مذكور” إيصال السالك 34.
وسمي بفحوى الخطاب وبغير ذلك على تفصيل عند علمائنا مرجعه إلى الاصطلاح1.
قال صاحب المراقي:
وغير منطوق هو المفهوم…..منه الموافقة قل معلوم
يسمى بتنبيه الخطاب وورد…..فحوى الخطاب اسما له في المعتمد
مراقي السعود إلى مراقي السعود 107.
ومفهوم الموافقة في الجملة حجة عند العلماء ومنهم المالكية ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: “قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه). قال ابن رشد: (لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة لأنه من باب السمع والذي رد ذلك يرد نوعا من الخطاب). قال الزركشي: (وقد خالف فيه ابن حزم، قال ابن تيمية: وهو مكابرة)” إرشاد الفحول 2/83 .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر كالذين يقولون: إن قوله: (فلا تقل لهما أف) لا يفيد النهي عن الضرب، وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم وهذا في غاية الضعف” الفتاوي 21/207، وانظر المجلد 27 منه كذلك ص: 250-251.
وينقسم مفهوم الموافقة إلى قسمين: أولوي، ومساوي 2.
أ- المفهوم الأولوي: وهو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب لأنه أشد، وذلك في قوله تعالى:(فلا تقل لهما أف)، ويسميه بعض العلماء بفحوى الخطاب.
ب. مفهوم مساوي: وهو ما كان المسكوت عنه مساويا للمنطوق في الحكم كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه، وذلك في قوله سبحانه: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا). فالأكل والإحراق متساويان، إذ الجميع إتلاف، وهذا القسم سماه بعض أهل العلم بلحن الخطاب.
قال الناظم:
أما إذا أفاد معنى وافقه…..فإنه المفهوم ذو الموافقه
يعطى مثيل حكم منطوق به……مكملا أو زائدا فانتبه
ثم إذا منطوق حكم ساوى……فإنه المفهوم ذو المساوا
وذا كحظر حرق مال لليتيم……أخذا من التحريم للأكل الذميم
وسمه لحن الخطاب تصب…..سمى له مشتهرا في الكتب
وإن يكن بحكم منطوق أحق…..فذا لأولوية قد استحق
وهو الذي قيل له فحوى الخطاب…..فرق بذا بينهما فهو الصواب
مثاله تحريم ضرب الوالدين…..أخذا من أف إذ نهى عنه لذين
لأن ضربه أشد باليدي….. من قوله أو بلسان الولدي
جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس المالكي الأبر 52-53.
وقد ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن مفهوم الموافقة من باب القياس (أي دلالته قياسية) وقد رد عليه الإمام أبو الوليد الباجي المالكي مستدلا على أن مفهوم الموافقة أصل مستقل عن القياس مستفاد من اللسان العربي، مما يقبله العقل توا دون اللجوء إلى علة القياس أو غيره، ولذا فدلالة مفهوم الموافقة لفظية في المذهب المالكي وذات استقلال في الدلالة على الحكم3. انظر أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي 354-356.
وينقسم مفهوم الموافقة كذلك إلى قسمين باعتبار آخر وهما القطعي والظني4:
أما القطعي: فهو ما قطع فيه بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق، كما مر في المثالين السابقين (المفهوم الأولوي والمساوي).
أما الظني: وهو ما ظن فيه انتفاء الفرق كقول المالكية “أن تارك الصلاة متعمدا: يجب عليه قضاؤها بقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، قالوا: فإذا كان النائم والساهي يقضيان الصلاة وهما غير مخاطبين، فلأن يقضيها العامد أولى” مفتاح الوصول للتلمساني المالكي رحمه الله 554 – تحقيق فركوس.
وللبحث بقية إن شاء الله..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. لم يتفق أهل العلم على اصطلاح واحد بالنسبة لفحوى الخطاب، فقد أطلقه أكثر أهل العلم على مفهوم الموافقة وسمي كذلك بتنبيه الخطاب أو مفهوم الخطاب، وقيل بالتفرقة بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب على ما ذكر أعلاه، وقد سمت الحنفية مفهوم الموافقة بـ “دلالة النص” انظر إحكام الفصول والمنهاج كلاهما للباجي المالكي رحمه الله، وشرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي رحمه الله في آخرين.
2. انظر إيصال السالك في أصول الإمام مالك 34، وأصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي 353-354، وتنوير العقول في التعليق على نظم مفتاح الوصول 117، على أن بعض أهل العلم يرون أن مفهوم الموافقة قسم واحد وهو الأولوي كما هو واضح من تعريفهم له، وعليه فالمساوي عندهم “لا يسمى مفهوم موافقة، وإن كان مثل الأول في الاحتجاج” مراقي السعود إلى مراقي السعود 108، و نثر الورود على مراقي السعود 1/103، ولهذا اقتصر التلمساني المالكي رحمه الله على الأولوي عند بيان حقيقة مفهوم الموافقة كما في مفتاح الوصول 552 تحقيق فركوس في آخرين، وكذا صنع الإمام ابن جزي المالكي رحمه الله في تقريب الوصول إلى علم الأصول 87-88 تحقيق فركوس، وقسمه إلى قسمين حيث قال: “وهو نوعان: تنبيه بالأقل على الأكثر كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) فإنه نبه بالنهي عن قول أف على النهي عن الشتم والضرب وغير ذلك…
– وتنبيه بالأكثر على الأقل كقوله تعالى: (من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك)”.
3. فالاحتجاج على حكم تحريم ضرب الوالدين وشتمهما من قوله تعالى: ( فلا تقل لهما أف ) مثلا لم يفهم في المذهب المالكي ومن قال بقولهم من دلالة كلمة (أف) وحدها قياسيا، وإنما فهم من إيجاب الإحسان للوالدين وإكرامهما الذي دلت عليه الآية، أو بمعنى آخر فهم ذلك من السياق والقرائن، وقد قيل: أن هذا قول المحققين من أهل العلم وهو كذلك.
انظر تنوير العقول في التعليق على نظم مفتاح الوصول 117، و تجديد علم أصول الفقه لمولود السريري 32-33.
والخلاف على التحقيق لفظي إن كانت دلالته بينة وعليه فلا ثمرة لذلك، وإن كان البعض ذكر من ثماره: تجويز النسخ بمفهوم الموافقة عند من يقول إن دلالته لفظية، ومنع جواز النسخ به عند من يقول إنها قياسية، والصحيح أن تسميته قياسا لا يضر في إثبات النسخ به إن كانت علته جلية غير ظنية. انظر المذكرة للعلامة الشنقيطي رحمه الله 89-90 في آخرين.
4. ويصطلح عليهما بعض العلماء بالجلي والخفي، انظر مفتاح الوصول للتلمساني المالكي رحمه الله 553 فما بعدها، وتنوير العقول في التعليق على نظم مفتاح الوصول 118، والاصطلاح عليهما بذلك عندي أدق وأولى.
والمراد بالجلي النوع القطعي من مفهوم الموافقة لأنه أشد مناسبة للفرع، وأما الخفي فهو الظني من مفهوم الموافقة لكونه محتملا وواقعا في محل الاجتهاد، انظر روضة الناظر 2/254، وشرح الكوكب المنير 3/486 في آخرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *