المعالم العامة لمنهجية الإمام مالك في العلم والفقه والفتيا “تهيُّبـُه من الفتاوي وقوله: لا أدري”

مما يدل على جلالة الإمام مالك رحمه الله، ويبين عظيم قدره في باب العلم والمعرفة خاصة: تقديره للفتوى حق قدرها تثبتا واحتياطا ومهابة، فكان رحمه الله إذا سأله سائل عن مسألة قال له: “انصرف حتى أنظر فيها”.

فينصرف رحمه الله ويتردد فيها، قال ابن عبد الحكم: “فقلنا له في ذلك؟ فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم” ترتيب المدارك 1/178.
حتى قال بعضهم:” لكأنما مالك -والله- إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار” نفسه.
وكان يقول رحمه الله: “من أحب أن يجيب عن مسألة، فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب” 1/179.
قال الناظم في معرض الحديث عن مناقب الإمام مالك رحمه الله:
وكان خائفا من الجبار — ملازم الفكر والاعتبار
وقال من أحب أن يجيب عن — كل سؤال حيثما السؤال عن
فليعرض النفس على الجحيم — وجنة الفردوس والنعيم
ثم يجيب كل من قد سأله — وحيث لا فلا يجيب مسأله
وعليه كان رحمه الله يجيب في كثير مما يسأل عنه بقوله: “لا أدري” حين لا يتبين له وجه الدليل من جهة الرواية أو الدراية، وكان هذا حال الأئمة جميعا ومنهم الأربعة كما قال صاحب المراقي:
فالكل من أهل المناحي الأربعة — يقول لا يدري فكن متبعة
وهذا لا يغض من علمهم، ولا يحط من درجتهم وإمامتهم، فلا تنافي قط بين العلم وقولهم لا ندري لما تحقق فيهم من التهيؤ للعلم بأحكام تلك المسائل المسئول عنها بمعاودة النظر.انظر منارأصول الفتوى 46.
ولذا قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “..إذا كان المراد بالعلم في الاصطلاح التهيؤ والصلاحية فإن ذلك لا يقدح في أئمة الاجتهاد الأربعة..” نثر الورود على مراقي السعود37-38.
هذا على أن أكثر الأئمة اشتهارا بذلك الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن وهب: “وحدثني مالك قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين، وسيد المرسلين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي.
وذكر عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بعض هذا وفي روايته: هذه الملائكة قد قالت: لا علم لنا” جامع بيان العلم وفضله 2/67.
فيشير بذلك إلى قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
وفي الموافقات للإمام الشاطبي رحمه الله 4/288 أن مالكا رحمه الله “سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس… قال عمر بن يزيد: فقلت لمالك في ذلك فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما أفتيهم به قال: فأخبرت الليث بذلك فبكى وقال: مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا”.
وقال الإمام مالك رحمه الله مرة: سمعت ابن هرمز يقول: “ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري”.
قال الناظم:
وفي اثنتين وثلاثين امتنع — من الجواب في سؤال قد وقع
عن أربعين بعدها ثمانية — وكان في كل العلوم داهية
وقال ينبغي لمن تحلى — بالعلم واسمه عليه دلا
توريث لا أدري لمن يجالسه — حتى يكون ديدنا يمارسه.
والذي يحمل على هذا الأدب الرفيع عدم حب الرياسة، مع الإنصاف في العلم والهيبة من الفتوى.
قال الإمام القرطبي رحمه الله عند ذكره لما أثر عن الإمام مالك من أجوبته بقوله: لا أدري: “وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم.
قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم.
روى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمَّ فينا الفساد وكثر فيه الطغام! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب، ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى” الجامع لأحكام القرآن 1/326، والله المستعان.
وقال ابن الصلاح رحمه الله: “ثبت عن سهل بن عبد الله التستري: وكان أحد الصالحين أنه قال: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء عليهم السلام فلينظر إلى مجالس العلماء يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأته ، وهذا مقام الأنبياء فاعرفوا لهم ذلك.
ولما ذكرناه هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين وكان أحدهم لا يمنعه شهرته بالإمامة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدافع بالجواب أو يقول: لا أدري أو يؤخر الجواب إلى حين يدري” فتاوى ابن الصلاح 8.
والإمام مالك رحمه الله “سلفي في لا أدري هذه التي سارت بأخباره فيها الركبان” سلفية الإمام مالك للكتاني.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “والروايات عنه في لا أدري ولا أحسن كثيرة حتى قيل: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة، وقيل له إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري؟ قال: ويحك، أعرفتني ومن أنا وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون، ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر وقال: هذا ابن عمر يقول: لا أدري فمن أنا وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة، وهذا يضمحل عن قليل.
وقال مرة أخرى قد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها، وقال ابن الزبير: لا أدري وابن عمر: لا أدري” الموافقات 4/288.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *