تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك الاستصحاب -الثامنة عشر- رشيد مومن الإدريسي

من أدلة مذهب الإمام مالك رحمه الله وأصوله التي يحتج بها شرعا ما يسمى بالاستصحاب، كما قال ابن أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي في نظمه:

وحجة لديه الاستصحاب *** ورأيه في ذاك لا يعاب
وقد ذكر ابن القصار رحمه الله أنه “ليس لمالك رحمه في ذلك نص، ولكن مذهبه يدل عليه، لأنه احتج في أشياء كثيرة، وسئل عنها فقال: لم يفعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، ولا الصحابة رحمة الله عليهم، وكذلك يقول: ما رأيت أحدا فعله، يدل على أن السمع إذا لم يرد بإيجاب شيء لم يجب، وكان على ما كان عليه من براءة الذمة.
والأصل في ذلك: أن الله تعالى قد احتج على عباده في العبادات بالعقل والسمع1، فما كان له حكم في العقل ولم يرد سمع بخلافه؛ فأمره موقوف على ورود السمع، فإن ورد بمثل ما كان في العقل كان مؤكدا، وإن ورد بخلافه، فقد نقل الأمر عما كان عليه وإن لم يرد سمع بشيء من ذلك، فهو على حكمه في العقل” المقدمة في أصول الفقه 25.
والاستصحاب لغة: طلب الصحبة، وهي الملازمة. انظر القاموس المحيط 1/95.
أما في الاصطلاح : فقال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “معناه أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر، يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال فهذا الظن عند مالك” شرح تنقيح الفصول 447.
وقال الإمام ابن جزي المالكي رحمه الله: “أما الاستصحاب: فهو بقاء الأمر والحال والاستقبال على ما كان عليه في الماضي وهو قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يدل الدليل على خلاف ذلك)؛ وهو حجة عند المالكية وأكثر الشافعية خلافا للحنفية والمتكلمين” تقريب الوصول إلى علم الأصول 146 تحقيق الدكتور فركوس.
وقد احتج أهل العلم رحمهم الله لأصل حجية الاستصحاب بما يأتي:
قوله تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) فهنا احتجاج بعدم الدليل فتأمل.
وقوله عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم في صحيحه: “إن الشيطان يأتي أحدهم فيقول أحدثت، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا”، وهنا أمر باستدامة الحكم وهو الاستصحاب.
كما احتجوا بأن الحكم إذا ثبت بدليل ولم يثبت له معارض، فالأصل بقاء ما تحقق وجوده أو عدمه فتنبه.
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “القول بالاستصحاب لازم لكل أحد لأنه أصل تبنى عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأدلة” نقلا عن رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين رحمه الله 2/133.
وليعلم أن الاستصحاب على قسمين 2:
الأول: استصحاب ما دل الدليل على نفيه أو إثباته حتى يأتي خلافه، وهو حجة عند الجماهير من أهل العلم ومنهم المالكية، ومن فروعه حل وطء الزوجة حتى يوجد ما يزيله كالطلاق.
الثاني استصحاب البراءة الأصلية وهو عدم الحكم ، وهو مقارب للقسم الأول لذلك عده بعض الأصوليين نوعا واحدا، وهو حجة عند الأكثرين حتى نقله أبو يعلى وأبو الطيب وغيرهما إجماعا. انظر المحلي على جمع الجوامع 2/347، وإرشاد الفحول 209.
ومن فروعه: أن الأصل براءة الذمة عن إيجاب الوتر، أو عن نقض الوضوء للخارج من غير السبيلين ونحوها.
وجمهور المالكية على الاحتجاج بهذا القسم على ما دل عليه من عدم الحكم إلا بعد البحث عن دليل من كتاب أو سنة يدل على خلاف العدم الأصلي، فإن لم يوجد حكم ببراءة الذمة من التكليف، وهذه إباحة عقلية.
قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله: “أكثر أصحابنا أن الأشياء في الأصل على الوقف ليست محظورة ولا مباحة3” إحكام الفصول 681.
وقال ابن جزي المالكي رحمه الله: “وأما البراءة الأصلية، فهي ضرب من الاستصحاب، ومعناه: البقاء على عدم الحكم حتى يدل الدليل عليه، لأن الأصل براءة الذمة من لزوم الأحكام، وهي حجة خلافا للمعتزلة وأبي الفرج والأبهري المالكيين” تقريب الوصول 146 تحقيق الدكتور فركوس.
ويشير ابن جزي رحمه في ذيل كلامه إلى خلاف أبي الفرج وأبي بكر الأبهري مع أصحاب مذهبهما المالكي على ما مر ذكره في كلام الباجي رحمة الله على الجميع، حيث يرى أبو الفرج رحمه الله: أن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع الإباحة الشرعية لا العقلية.
أما الأبهري رحمه الله فيرى أن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع المنع.
“وتظهر فائدة هذا الخلاف عند عدم الأدلة الشرعية أو تعارضها في شيء خاص، قاله القرافي ونحوه المازري، فعلى قول الأبهري يكون الحكم في الشيء الذي تعارضت فيه الأدلة أو عدمت هو المنع، وعلى قول أبي الفرج يكون فيه الإباحة” إيضاح السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 55.
قال ابن عاصم المالكي في مرتقى الوصول 722؛ مع شرحه ناظما:
والأخذ بالنفي وبالإثبات *** حتى يرى المطلوب منه ياتي
ونوع الاستصحاب ما أبانا *** إبقاء ما كان على ما كانا
واعتمد الصحة فيه الأكثر *** وفيه للنعمان خلف يذكر
ومثله البراءة الأصلية *** وهو البقاء على انتفا الحكمية
حتى يدلنا دليل شرعا *** على خلاف الحكم فيهما معا
والخلف موجود بأصل ثاني *** للأبهري وللأصبهاني
ومما ينبغي أن يعلم في الختام أن: الاستصحاب آخر مدار الفتوى، إذ لا يلجأ إليه إلا عند انتفاء جميع الأدلة التي يصح بها الاستدلال، فإذا انتفت ولم توجد صح عند ذلك الأخذ بالاستصحاب، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالاستصحاب في كثير من المواضع من أضعف الأدلة” الفتاوي 13/112.

………………………………………………………..
1. الناظر في تقسيم الاستصحاب من حيث الإجمال يرى أنه إما استصحاب دليل عقلي، أو استصحاب دليل شرعي، ولذلك ورد في التعريفات للجرجاني رحمه الله 14 في آخرين أن الاستصحاب هو: “التمسك بالدليل العقلي أو الشرعي ومصاحبته لعدم الدليل المغير له”.
2. شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي رحمه الله 447.
3. أي: شرعا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *