خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث التنبيه على ضرورة فهم الدليل والتفقه فيه -الحلقة الحادية عشرة- رشيد مومن الإدريسي

من المقرر في الشريعة الغراء، ومن المعلوم عند العلماء أن ديننا دين حجة واتباع، لا دين رأي وابتداع، مما يجب معه الاعتناء عند معرفة الأحكام الشرعية بالدليل والبرهان، والحذر من المشي وراء الهوى وما يجول في الأذهان.

قال الله تعالى: “أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ”.
قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: “أي: قل يا أيها الرسول (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم، وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص والعيب والجور، وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما فهو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر.
(الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً): أي: موضحا فيه الحلال والحرام والأحكام الشرعية، وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا، لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة..”1.
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله”.
قال المناوي رحمه الله تعالى: “أنهما -الكتاب والسنة- الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما واعتصم بحبلهما وهما الفرقان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة، لكن القرآن يحصل به العلم القطعي يقينا وفي السنة تفصيل معروف”2.
ولذا قامت مذاهب الفقهاء والعلماء ومنهم الأئمة الأربعة على الأخذ بالدليل والبرهان، ونبذ كل ما خالف ذلك.
فـ”كلهم مشتركون في أنه متى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فواجب المصير إليه” 3.
قال الصنعاني رحمه الله: “وأما الأئمة الأربعة فإن كلا منهم مصرح بأنه لا يقدم قوله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم” 4.
لكن مما غفل عنه كثير من الناس في هذا الصدد خاصة في وقتنا هذا مع اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم -مع أخذهم بالدليل- عدم اعتنائهم بفهمه والتفقه في المراد منه شرعا، فتجد الواحد منهم يحتج عليك بالدليل دون دراية ولا فقه فيه، وهذه مزلة قدم.
إذا لم يكن لك حُسنُ فهم ***** أسأت إجابةً وأسأتَ فَهماً
فـ”ينبغي أن يفهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام مراده من غير غلو ولا تقصير فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد” 5.
فالأدلة الشرعية هي المستند لوضع الأحكام وعليه فإذا كان وجه الاستدلال غير صحيح منها، كان ما يترتب عليها من الأحكام وما يتفرع عنها أشبه ما يكون بقوله تعالى: “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.
قال ابن القيم رحمه الله: “تجريد المتابعة (أي: للنبي عليه الصلاة والسلام) أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولا فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا”6.
وعليه كما يجب الاعتناء بالدليل بعد توثيقه والتثبت منه مع الحرص على جمع الأدلة في الباب إذا وجدت، فـ”الإعمال خير من الإهمال” وحقيقة الدليل في المسألة جمع أطرافها، كما قال الشاطبي رحمه الله: “فالعام مع خاصه هو الدليل”7، لا بد بَعدُ من الاعتناء بالفهم.
هذا لأن “الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ”8.
كما أن “الاستدلال شيء والدلالة شيء آخر، فلا يلزم من الغلط في أحدهما الغلط في الآخر، فقد يغلط في الاستدلال والدلالة صحيحة9، كما يستدل بنص منسوخ، أو مخصوص على حكم فهو دال عليه تناولا، فالغلط في الاستدلال لا في الدلالة”10.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر”11.
و”الفهم معرفتك الشيء بالقلب، فهمه فهْمًا وفهَمًا.. وفهمت الشيء عقلته وعرفته، وفهمت فلانا وأفهمته وتفهم الكلام فهمه شيئا بعد شيء”12.
وحقيقة ذلك الفقه والتفقه.
قال ابن بطة رحمه الله: “فأما الفقه في اللسان الفصيح فمعناه الفهم، تقول فلان لا يفقه قولي أي: لا يفهم، قال الله تعالى: “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم” أي: لا تفهمون، وقوله تعالى: “لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ” أي: لتفهموه، فيكونوا علماء به، ومن ذلك قولهم: فلان لا يفقه ولا ينقه، معناه لا يفقه ولا يعلم”13.
وعليه كان إطلاق الفقيه في لغة الحديث والسلف الصالح واسع يقع على العالم بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
قال الفلاني رحمه الله: “اسم الفقيه عند السلف.. إنما يقع على من علم الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة”14.
ولذا “كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث”15.
والقصد أنه لم يكن هناك فصام بين الفقه والحديث، والدراية والرواية.
قال الخطابي رحمه الله: “رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، كل واحد منها لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه في البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب”16.
فالله الله في الاعتناء بفهم الدليل فإنه من أركان مبدأ العلم والغفلة عنه سبيل للضلال والإضلال والوهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “العلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم”17.
وفي ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله: “قال ابن وهب: لولا أن الله أنقدني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي: خذ هذا، ودع هذا”18.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: “معرفة معاني الحديث وتفسيره أشد من حفظه”19.
وقال علي بن المديني رحمه الله: “التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم”20.
إذن فمما لا بد منه في مسالك الاستدلال عند أهل السنة والحديث -للخلوص لحكم شرعي صحيح- الاعتناء بفهم الأدلة الشرعية والحذر من الاكتفاء عند الاحتجاج بمجرد التجمل بالدليل، ورفع شعاره دون فقه فيه، ولا مراعاة للمقاصد الشرعية، والقواعد المرعية، وضبط ذلك بفهم سلف الأمة وما عليه أهل السنة السنية، وهذا هو معنى قول من قال: “ليست العبرة بمجرد الدليل وإنما بغايته” أي: في صحة الاستدلال به.
وللحديث بقية لتصور حقيقة فهم الدليل على جهة التفصيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. تيسير الكريم الرحمن 1/270.
2. فيض القدير 3/240.
3. معنى قول الإمام المطلبي للسبكي رحمه الله 58.
4. إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد 14.
5. الروح لابن القيم رحمه الله 62.
6. نفسه 264.
7. الموافقات 3/90.
8. الفتاوى الكبرى 1/463.
9. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “النص يحتاج إلى صحة الإسناد، ودلالة المتن، فلا بد أن يكون النص ثابتا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا بد أن يكون دالا على المطلوب” منهاج السنة 7/419.
10. بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله.
11. جامع بيان العلم 2/124.
12. لسان العرب 12/459.
13. إبطال الحيل 6.
14. إيقاظ همم أولي الأبصار 28.
15. تلبيس إبليس127 – منتقاه.
16. معالم السنن 1/3.
17. الاقتضاء 160.
18. 2/427.
19. الآداب الشرعية لابن منفلح رحمه الله 2/119.
20. مقدمة تهذيب الكمال 1/165.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *