تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة الثالثة عشرة- رشيد مومن الإدريسي

حظيت المدينة النبوية بما لم تحظ به مدينة أخرى، فقد اختارها الله دار هجرة النبي عليه الصلاة والسلام ومهبط الوحي وموضع قبره، ومستقر الإسلام، ومجمع الصحابة رضي الله عنهم، وفيها نزل أكثر الأحكام الشرعية، وفيها بدأ تطبيق أحكام العبادات والمعاملات، إلى أن أكمل الله الدين الإسلامي للأمة الإسلامية.

وفوق هذه الأرض تعلم الإمام مالك رحمه الله وعلم، وتلقى من شيوخه الكرام ما أخذوه من سابقيهم، وهؤلاء بدورهم ما حملوه عن النبي عليه الصلاة والسلام من مسائل العلم والعمل.
فكانت هناك أمور تلقاها الإمام مالك رحمه الله ووعاها لم يتيسر الاطلاع عليها لغيره من الأئمة الآخرين، وهذه الأمور هي التي اصطلح عليها بـ”عمل أهل المدينة”1.
حتى صار هذا الأخير أصلا من أصول مالك رحمه الله وأهل مذهبه.
قال الناظم:
وعند مالك وأهل المذهب معتبر إجماع أهل يثرب
وقد صرح الإمام مالك رحمه الله باعتباره لهذا الأصل في رسالته إلى الليث بن سعد رحمه الله فقد جاء فيها: “..اعلم -رحمك الله- أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلهم إليك، أو اعتمادهم على ما جاء منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية، وقال تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الآية، فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده، صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف، أو قال أمرا غيره أقوى منه وأولى ترك قوله، وعمل بغيره.
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل، ويتبعون تلك السنن.
فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به لم أر لأحد خلافه، للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها” ترتيب المدارك 1/41.
ولقد كان اعتبار مالك رحمه الله إجماع أهل المدينة أصلا من أصول الأحكام اتباعا لسلفه من أهل المدينة2، حيث إن هذا المفهوم ظهر مبكرا، ودلَّ لذلك ما ذكره القاضي عياض رحمه الله عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: “إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه سنة”.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: “لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيها إلى أهل المدينة، فإذا أجمعوا على شيء -يعني فعلوه- صلح الأمر، ولكنهم إذا نعق ناعق تبعه الطاس”.
قال عياض رحمه الله: وقال مالك رحمه الله: “كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه، ثم يقدم المدينة، فيجد الأمر على غير ما قال. فإذا رجع لم يحط راحلته ولم يدخل منزله حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك” انظر ترتيب المدارك 1/61-62.
فما مفهوم عمل أهل المدينة؟
العمل في اللغة مصدر عمل -بفتح العين وكسر الميم- يعمل عملا، وجمعه أعمال، ومعناه الفعل والمهنة، وعليه يكون معنى عمل أهل المدينة في الوضع اللغوي الفعل المنسوب إليهم.
أما معنى عمل أهل المدينة في اصطلاح مالك رحمه الله، فقد وردت عنه ثلاث روايات في ذلك:
الأولى: ذكرها ابن عبد البر والقاضي عياض عن الداروردي رحمة الله عليهم جميعا قال: “إذا قال مالك: وعليه أدركت أهل العلم ببلدنا، والأمر المجمع عليه عندنا، فإنه يريد ربيعة بن عبد الرحمن وابن هرمز” التمهيد 3/4، وجامع بيان العلم 2/149، وترتيب المدارك 1/195.
الثانية: أوردها عياض رحمه الله عن أحمد بن عبد الله الكوفي رحمه الله أنه ذكر في تاريخه أن كل ما قال فيه مالك في موطئه: الأمر المجتمع عليه عندنا، فهو قضاء سليمان بن بلال. ترتيب المدارك 1/194.
الثالثة: ذكرها أبو الوليد الباجي وعياض وغيرهما رحمة الله على الجميع عن إسماعيل بن أبي أويس رحمه الله قال: قيل لمالك: ما قولك في الكتاب (يعني الموطأ): الأمر المجتمع عليه عندنا وببلدنا وأدركت أهل العلم، وسمعت بعض أهل العلم؟
فقال: “أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هو برأيي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله، فكثر علي فقلت رأيي، وذلك إذا كان رأيهم مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه وأدركتهم أنا على ذلك، فهذا وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا.
وما كنت أرى فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة.
وما كان فيه الأمر المجتمع عليه، فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه.
وما قلت: الأمر عندنا، فهو ما عمل الناس به عندنا، وجرت به الأحكام، وعرفه الجاهل والعالم، كذلك ما قلت فيه: ببلدنا.
وما قلت فيه: بعض أهل العلم، فهو شيء أستحسنه في قول العلماء.
وأما ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موضع الحق أو قريب منه، حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم.
وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لقيت، فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيرهم” ترتيب المدارك 1/194.
والراجح من هذه الروايات الثالثة لأمور وهي3:
أولها: تضعيف عياض رحمه الله للرواية الأولى والثانية في موضعين من كتابه المدارك، حيث قال في الأول :هذا لا يصح، وفي الثاني: وهذا غير صحيح. المدارك 1/195 و 298.
ثانيها: ذكر عياض للرواية الثالثة دون تعليق، كما استشهد بها الباجي دون إشارة إلى مغمز فيها مما يدل على ثبوتها عندهما وهما من أقطاب المذهب فتأمل. انظر إحكام الفصول 2/418.
كما ذكرها جماعات من المالكية كعيسى بن محمد التلمساني وعبد الرحمن بن القاسم تلميذ مالك رحمة الله على الجميع. انظر المعيار 11/382، ونيل الابتهاج:192، وتعريف الخلف برجال السلف:310.
ثالثها: أن الناظر في تصريحات مالك رحمه الله وأقواله يجد العمل عنده لا ينحصر في الثلاثة الذين ذكروا في الرواية الأولى والثانية وحدهم.
رابعها: أن في الرواية الأولى والثانية حكاية عن مالك عن بعض أصحابه، وفي الثالثة تصريح منه بالقول، والقول أقوى من حكاية الغير عنه.
خامسها: أنه يمكن الجمع بين هذه الروايات ليرجع الأمر إلى الثالثة، وذلك برد الروايتين الأولى والثانية إلى الرواية الثالثة، ووجهه أن مالكا رحمه الله يرى العمل كما جاء في الرواية الثالثة، أما ما ورد في الأولى والثانية فيحمل على أن ربيعة وابن هرمز وسليمان بن بلال لم يكونوا يخرجون عن الإجماع إذا انعقد بالمدينة.
وللبحث بقية…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. وهذا الاصطلاح هو الغالب في استعمال المالكية، حيث البعض منهم اصطلح على ذلك باسم: (إجماع أهل المدينة) كما هي التسمية الأكثر استعمالا وتداولا عند جمهور العلماء من مختلف المذاهب. انظر عمل أهل المدينة وأثره في الفقه الإسلامي:180.
2. وإنما نسب إلى مالك رحمه الله لكثرة ما ابتلي به من الإفتاء، ولأنه دَون بعض ما أفتى به معتمدا على أقوال أهل المدينة، فكان أشهر من أخذ بذلك فنسب القول إليه. انظر خبر الواحد إذا خالف عمل أهل المدينة 57-58.
3. انظر عمل أهل المدينة وأثره في الفقه الإسلامي ص:224 فما بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *