من المقرر عند أهل العلم تحذيرهم ونهيهم عن الأخذ بالأقوال الشاذة وترك الاعتداد بها، على خلاف بينهم في حدِّها وتعريفها، وعموما نقول: إن إطلاق أهل العلم والفقه للشذوذ هو لاعتبارات متباينة إلا أن الأمر يرجع إجمالا إلى جهتين:
أ – الشذوذ مطلقا.
ب- الشذوذ في المذهب.
والذي يهمنا في مبحثنا هذا ما له تعلق بالشذوذ في المذهب المالكي من جهة انفراد بعض الكتب في المذهب ببعض المسائل الفقهية، ولذا قرر السادة المالكية رحمهم الله عدم الاعتداد بما انفردت به، ومن ذلك:
– مواهب الجليل بحل ألفاظ الشيخ خليل لأبي الإرشاد نور الدين الأجهوري المالكي رحمه الله، قال عنه الهلالي المالكي رحمه الله: “قال زروق: ومن الكتب التي لا يعتمد على ما انفردت به شرح العلامة الشهير المكنى بأبي الإرشاد نور الدين الشيخ علي الأجهوري على المختصر كما ذكر ذلك تلميذه العلامة النقاد أبو سالم سيدي عبد الله العياشي في تأليفه (القول المحكم في عقود الأصم والأبكم). وأشار إلى ذلك في رحلته(1). ومن مارس الشرح المذكور وقف على صحة ما قاله تلميذه المذكور والمراد شرحه الوسط(2)” (نور البصر 161).
– شروحات على المختصر كذلك لبرهان الدين بن عطية الشبرخيتي المالكي، ولأبي محمد عبد الباقي الزرقاني المالكي(3)، ولأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخِرشي المالكي(4)، ولناصر الدين محمد النشرتي المالكي رحمة الله عليهم جميعا، وهم من تلاميذ الأجهوري رحمه الله وقد وقعوا فيما وقع فيه شيخهم بسبب تقليدهم له غالبا.
قال الهلالي المالكي رحمه الله: “وما قيل فيه (أي: الأجهوري) يقال في شروح تلامذته وأتباعه من المشارقة، كالشيخ عبد الباقي، والشبرخيتي، والخرشي لأنهم يقلدونه غالبا” (نور البصر 48).
قال صاحب بوطليحية رحمه الله:
بيان ما من كتب لا يعتمد ما انفردت بنقله طول الأمد
من ذلك الأجهوري مع أتباعه مع إطلاعه وطول باعه
إذ خلط الحصباء بالدر الثمين ولم يميز بين غث وسمين(5)
وما يقال فيه قل في الباقي كالشبرخيتي وعبد الباقي
والخرشي بالكسر بكل قوله والنشرتي رابع للدوله
لأنهم قد قلدوا ما قاله شيخهم ونقلوا أنقاله
فكل ما بنقله قد انفرد أولاء لم يقبله غيرهم فرد
وبجانب ما ذكر نبه أهل العلم على ما لا يعتمد من الكتب في المذهب بسبب نسبتها إلى من نسبت إليه نسبة مكذوبة ومن ذلك:
– التقريب والتبيين في شرح التلقين: وينسب لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله.
قال التسولي المالكي رحمه الله: “..وهذا الشرح مجهول النسبة عندي فلم أدر صاحبه من هو، فلا ينبغي أن يعتمد على ما فيه مما يخالف الجادة والله أعلم” (البهجة في شرح التحفة 1/642).
– الفصول والدلائل: لابن أبي زيد أيضا كما نسبه إليه صاحب بوطليحية رحمه الله وسيأتي قريبا، وأما الهلالي رحمه الله فنسبه إلى أبي عمران كما في نور البصر:48، مع أن هذا الأخير سماه بـ”الدلائل والفصول”، وصاحب بوطليحية سماه بـ”الفصول والدلائل”، فهل الكلام عن كتابين مختلفين، أم أن الكتاب واحد والغلاوي رحمه الله في نظمه قدم ما أخر في الاسم لموجب ضرورة الشعر؟
فالمسألة محل نظر والعلم عند الله.
– الأجوبة المنسوبة لابن سحنون.
هذه الأجوبة ذكرها صاحب الأعلام من بين كتب ابن سحنون(6)، قال الهلالي رحمه الله: “وقد حذر العلماء من تأليف موجود بأيدي الناس تنسب للأئمة ونسبتها باطلة ففي نوازل ابن هلال: حذار من الأجوبة المنسوبة لابن سحنون، وما زال الأشياخ يحذرون الطلبة منها..” (نور البصر 166).
– أجوبة القرويين، أي فقهاء المالكية بالقيروان.
قال الهلالي رحمه الله: “وكذلك أجوبة القرويين لا تجوز الفتوى بما فيها ولا عمل عليها بوجه من الوجوه” (نور البصر 160).
– أحكام الزيات، لعبد العزيز بن الحسن الفاسي الزياتي التطواني المالكي، وهذا الكتاب في النوازل والأحكام يعرف باسم “الجواهر المختارة في ما وقفت عليه من النوازل بجبل غمارة “، وقد جعله الزركلي ضمن كتب الزياتي رحمه الله(7)، والظاهر أنه لم يطلع على أن هذا الكتاب مكذوب عليه.
قال الهلالي رحمه الله: “وكذلك أحكام ابن الزيات لا تجوز الفتوى بما فيها” (نور البصر 160).
في نوازل عبد القادر الفاسي رحمه الله مانصه: “قال القوري: أجوبة ابن سحنون لا يجوز الفتوى بما فيها ولا عمل عليها بوجه من الوجوه، وكذلك التقريب والتبيين الموضوع لابن أبي زيد، وكذلك أجوبة القرويين وكذلك أحكام ابن الزيات..” (انظر نور البصر 167).
قال صاحب بوطليحية:
قد حذروا من كتب منسوبة للعلماء نسبة مكذوبة
من ذلك التقريب والتبيين لابن أبي زيد له تبيين
كذاك ذو الفصول والدلائل لابن أبي زيد بلا دلائل
ومنه الأجوبة للسحنون فعزوها له من الجنون
والقرويون إليهم تنسب أجوبة وهي لزور أنسب
وما من الأحكام للزياتي يعزى على نهج الضلال ياتي
…………………………….
1. وهي المعروفة برحلة العياشي المالكي، وتسمى بـ”ماء الموائد”، قال الكتاني في فهرس الفهارس نقلا عن المسناوي في كتابه (جهد المقل القاصر): “جمة الفوائد، عذبة الموارد، غزيرة النفع، جليلة القدر، جامعة في المسائل العلمية المتنوعة ما يفوت الحصر، سلسة المساق والعبارة، مليحة التصريح والإشارة”.
2. لأن له ثلاثة شروح على المختصر، صغير في مجلدين، ومتوسط في خمسة مجلدات وهو المقصود أعلاه، وكبير في اثني عشر مجلدا.
3. حشاه البناني رحمه الله.
4. وله في ذلك شرح كبير وصغير حشاه العدوي، وقد رُزق في هذا الأخير القبول.
5. قال الهلالي رحمه الله: “..مع أن الشيخ عليا رحمه الله حرر كثيرا من المسائل أتم تحرير وقررها أوضح تقرير، وحصل الكثير من النقول أحسن تحصيل وفصل مجملات أبين تفصيل، فشرحه كثير الفوائد لمن يميز حصباءه من دره” (نور البصر 161).
6. قال الزركلي رحمه الله: “.. وأجوبة محمد بن سحنون في الفقه” الأعلام 6/205.
7. قال الزركلي رحمه الله في ترجمة الزياتي: “له كتاب.. في النوازل والأحكام سماه (الجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبل غمارة) الأعلام 4/16، وقد سماه المعلق على نظم بوطليحية يحيى بن االبراء ص: 104 بـ”النوازل المختارة..”، والظاهر ما أثبته صاحب الأعلام.