مسالك علماء المذهب في تحقيق المذهب المذهب المالكي أنموذجا “مراعاة مسالك في التصنيف والتأليف” رشيد مومن الإدريسي

المتبصر الناقل لحكم شرعي من المذهب المالكي مثلا أو المفتي فيه، لا بد له من الانطلاق في نظرته الفقهية من دواوين الفقه في هذا المذهب1.

وعليه فمن المهمات في هذا الباب الإطلاع على المصنفات الفقهية للمذهب المالكي، فهذا الأخير غني بمؤلفات الفقه المتنوعة ومع تنوعها فهي على نوعين: كتب متقدمة كالنوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وكتب متأخرة كمختصر خليل رحمه الله.
والنظر العلمي في الدواوين المتقدمة يعين على فهم كتب المتأخرين في المذهب الذين لخصوا واختصروا2 بدورهم كتب من سبقهم على حد قول من قال: “رد الكثير إلى القليل، وتضمين القليل معنى الكثير”3.
ومن هذه المصنفات إضافة إلى ما ذكر قريبا: الموطأ للإمام مالك رحمه الله4، والمدونة الكبرى والمستخرجة وهي العتبية نسبة لأبي عبد الله محمد بن أحمد العتبي رحمه الله، وأصول الفتيا في الفقه على مذهب الإمام مالك للخشني رحمه الله، والتفريع لابن الجلاب رحمه الله، والكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر رحمه الله، والمقدمات الممهدات لابن رشد الجد رحمه الله، والبيان والتحصيل لابن رشد الجد كذلك رحمه الله، ومتن الرسالة للقيرواني رحمه الله، والفتاوي لابن رشد رحمه الله، وفتاوي الشيخ عليش رحمه الله، والقوانين الفقهية لابن جزي رحمه الله، والدخيرة للقرافي رحمه الله، والتبصرة لابن فرحون رحمه الله، وتحفة الحكام لابن عاصم رحمه الله، ولامية الزقاق للتجيبي رحمه الله، والمرشد المعين لابن عاشر رحمه الله في آخرين من المؤلفات، فما ذكر ما هو إلا غيض من فيض5.
إلا أن النظر في المصنفات عموما ومؤلفات المالكية خصوصا تحتاج إلى مراعاة جملة من المسالك للوصول إلى تحرير الأقوال وتحقيقها، وهي طرائق مطروقة عند العلماء ومنهم السادة المالكية ومن ذلك:
المسلك الأول: الأخذ بلازم الأقوال والمذاهب مطلقا مطرح
قال الشاطبي المالكي رحمه الله: “ولازم المذهب هل هو مذهب أو لا؟
هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول. والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا: أن لازم المذهب ليس بمذهب” الاعتصام 2/64، وبنحوه قال القرافي رحمه الله في البروق في أنواع الفروق 8/243.
وقال القرافي المالكي رحمه الله: “ولازم المذهب ليس بمذهب إذا لم يكن اللزوم بينا” البروق في أنواع الفروق 2/52.
المسلك الثاني: لابد من التفرقة بين الحكم والفتيا وبين التصنيف وكتب الفتاوي، فإذا أنت أردت عزو قولة إلى إمام في كتب الفتاوي له فهذا لا يعول عليه أصالة، وإنما التعويل على ما في المصنفات إلا إذا اتفقا وأما إذا اختلفا: افترقنا في الحكم على ما سبق إذ الأصل المصنفات لا كتب الفتاوي6. ذلك أن العناية بكتب التصانيف وتقرير الأحكام فيها أتم ولذلك يقرر الكردي رحمه الله ذلك فيقول: “في كلام الأئمة إشارة إلى أنه إذا اختلف كلام إمام في الفتاوي والتصانيف: قدم الثاني -أي الذي في التصانيف- لأن الاعتناء في تحريرها أتم” الفوائد المدنية 23.
وهذا هو المعتمد عند عامة الفقهاء في عزو الألفاظ والنقول وتحرير المذاهب ولذلك يقول ابن ياسين رحمه الله: “وإذا وجدنا في المسألة كلاما في الفتوى فالعمدة ما في المصنف” الحجج البالغة ص: 6.
المسلك الثالث: أن يفرق بين وجود المسألة في بابها وفي غير بابها وفي مظانها وغير مظانها.
فإذا وجدت كلاما في الباب وكلاما في غير الباب: فالعمدة ما في الباب، وإذا وجدت كلاما في المظنة وفي غير المظنة استطرادا7 فالعمدة ما في المظنة.
وقولنا في غير المظنة المراد به: مجيئها في غير محلها -أي عرضا واستطرادا- وهو ما يسمى بالمسائل الاستطرادية.
وعليه: فإن هناك فرقا بينهما، أي: ما في الباب والمظنة، يقول الإمام النووي رحمه الله في مقدمة المجموع 1/69: “فالذي ذكره في بابه أقوى: لأنه أتى به مقصودا وقرره في موضوعه بعد فكر طويل، بخلاف ما ذكره في غير بابه استطرادا فلا يعتني به اعتناءه بالأول”.
وعليه: فالمسألة المحكوم عليها -التي تريد أن تعزوها إلى إمام أو مذهب- راجعة إلى ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: (موضع معلوم وجودها فيه): -أي متيقن- وهذا الأصل أن تكون في بابها وهو ما يسمى: وجود المسألة في الباب.
الموضع الثاني: (أن تكون المسألة مظنونة) أي: موجودة في غير بابها لكن في محل مظنون وجوده فيها.
الموضع الثالث: (أن تأتي استطرادا في محل عارض لا مظنون ولا معلوم): فهذا هو ما يسمى: بالعرض فهذا قد لا يذكر الإمام قيوده وحكمه وتبعاته، لأن يتوجه إلى ما هو بصدد تقريره وهذا أتى عرضا، ولذلك يقول القرافي المالكي في العقد المنظوم 475: “إن الكلام إذا سيق لأجل معنى لا يكون حجة في غيره، لأن العادة قاضية أن المتكلم يكون مقبلا على ذلك المعنى معرضا عن غيره، وما كان المتكلم معرضا عنه لا يستدل به بلفظه عليه فانه كالمسكوت عنه”.
ومن هنا قال جمع من الأئمة: مذهب الإنسان في تقرير القاعدة في الأمثلة ليس بلازم أن يكون مذهبا له، لأنه يأتي بالقاعدة ويمثل لها، همه الإيضاح لا أن يبين الحكم بالمثال.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في معرض كلامه عن مسألة فقهية: “واعلم أن قصدنا دائما بالأمثلة التي اختلف فيها الأئمة مطلق المثال لفهم القاعدة وليس قصدنا مناقشة أدلة أقوالهم وترجيح الراجح منها بالدليل.
والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الفرض والاحتمال”
آداب البحث والمناظرة 50.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ولا يعني هذا عدم الأخذ بعين الاعتبار أدلة المذاهب المعتبرة الأخرى، وأقوال المجتهدين فيها مما يعضده الأثر والنظر بل هو أمر لابد منه للمتبصر والمفتي كما كان يفعل أئمة المذهب المالكي كابن وهب، واللخمي، والقرطبي في آخرين رحمة الله على الجميع.
والأخذ بقول خارج المذهب بحجته تؤيده النظرة المذهبية حين ينعدم الدليل في المذهب للقضية المعينة. انظر مواهب الجليل 1/33، ويرجح هذا الطرح في المذهب المالكي خاصة اعتباره لأصل مراعاة الخلاف انظر الموافقات للشاطبي المالكي رحمه الله 4/202.
2. والاختصار مقصد من مقاصد التأليف، وقد بين الهلالي المالكي رحمه الله في بيتين مقاصد التأليف قائلا:
في سبعة حصروا مقاصد العقلا—-من التأليف فاحفضها تنل أملا
أبدع تمام تبيان لاختصارك في—-جمع ورتب وأصلح يا أخي
نقلا عن الاختصار والمختصرات في المذهب المالكي لمحمد قبول ص:41.
3. وهذه العبارة للحطاب المالكي رحمه الله في مواهب الجليل 1/34، ويريد بها تعريف الاختصار عند الفقهاء، هذا مع لفت النظر إلى وقوع الاختلاف بين أهل العلم من المالكية وغيرهم في قضية قبول اختصار المصنفات.
انظر مقدمة مختصر خليل ومعه شفاء الغليل لمحمد بن أحمد بن غازي العثماني رحمه الله، والاختصار والمختصرات في المذهب المالكي.
4. وإدراجه في الكتب الفقهية محتم لاشتماله على فتاوي الصحابة والتابعين، وفتاوي الإمام مالك نفسه في جزئيات فقهية متعددة فهو كتاب حديث وفقه.
5. انظر في ذلك رسالة مصادر الفقه المالكي أصولا وفروعا في المشرق والمغرب قديما وحديثا للشيخ أبي عاصم بشير ضيف المالكي.
6. لأن الفتوى يراعى فيها الحالة العينية والخاصة مما يستوجب شرعا خلاف الحكم الأصلي فتنبه.
7. يقول الجرجاني رحمه الله: “الاستطراد: سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر، وهو غير مقصود بالذات بل بالعرض” التعريفات 24.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *