تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة الرابعة- رشيد مومن الإدريسي

الدليل الثاني من أدلة مذهب إمامنا مالك رحمه الله: الظاهر من الكتاب والسنة الصحيحة، كما قال أبو كف أحمد المحجوبي الشنقيطي في نظمه:

وظاهر الكتاب والظاهر *** من سنة من بالفضل كله قمن
والظاهر لغة: الواضح، وهو مشتق من الظهور وهو الوضوح والانكشاف. انظر المصباح المنير للفيومي 147.
وهو اصطلاحا: “المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يحتمل معنيين فزائدا، إلا أنه يكون في بعضها أظهر منه في سائرها، إما لعرف استعمال في لغة، أو شرع أو صناعة.
ولأن اللفظ موضوع له، وقد يستعمل في غيره، فإذا ورد على السامع سبق إلى فهمه أن المراد به ما هو أظهر فيه” كما في كتاب الحدود في الأصول لأبي الوليد الباجي المالكي رحمه الله 43.
قال الناظم:
واللفظ إن دل على ما وضحا *** واحتمل الغير احتمالا رجحا
فظاهر معناه فيه واضح *** وحمله بدءا عليه راجــح
جواهر الدرر في نظم أصول ابن باديس المالكي رحمه الله 57.
وعليه فاللفظ “إن احتمل معنيين فأكثر، فلا يخلوا إما أن يكون أحدهما أرجح من الآخر أم لا، فإن كان أحدهما أرجح من الآخر سمي بالنظر إلى الراجح ظاهرا1، وبالنسبة إلى المرجوح أو الأخفى مؤولا..” تقريب الوصول إلى علم الأصول للإمام ابن جزي المالكي رحمه الله 85.
وحكم الظاهر أنه يفيد غلبة الظن، فلا يجوز تركه إلا بدليل مؤول2، ذلك لأن “القاعدة الشرعية ترجيح الظاهر على التأويل عند جميع العلماء إلا إذا عضد التأويل دليل آخر من الشريعة” إيصال السالك في أصول الإمام مالك للولاتي 26.
قال الإمام ابن عاصم المالكي رحمه الله:
والظاهر الذي مرجَّحا بدا *** وعكسه مؤول إن عضدا
وفي الكتاب قد أتت والسنه *** لم يتخلف واحد من هنهنه
مرتقى الوصول إلى علم الأصول ص: 436 – مع شرحه.
ومثال الظاهر من الكتاب قوله تعالى: (فإطعام ستين مسكينا)، فإنه ظاهر في أن المظاهر الذي لم يستطع الصوم يجب عليه إطعام ستين شخصا مسكينا، أي: فقيرا لا مال له لكل مد، ولا يجزي إعطاؤه لمسكين واحد ولا إعطاء مدين منها له أيضا.
ويحتمل أيضا أن المراد بالمسكين المد، لأنه من أسمائه ويكون المعنى: فإطعام طعام ستين مدا، وعليه فيجزئ إعطاء جميع الكفارة لمسكين واحد ستين يوما في كل يوم مد، والأول مذهب الجمهور والثاني مذهب الحنفية.
ومثاله من السنة قوله عليه الصلاة والسلام الثابت في سنن أبي داود: “من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له”، فإنه ظاهر في أن تبييت النية واجب في كل صيام، لأن المعرف بـ (أل)، والنكرة في سياق النفي للعموم ظاهر، أو يحتمل أن المراد بالصيام صيام النذر والقضاء، فيكون المراد به بعض أفراده، وأن غيرهما من الصوم يصح بدون تبييت النية، والأول مذهب الجمهور، والثاني مذهب الحنفية أيضا. انظر إيصال السالك في أصول الإمام مالك ص: 25- 26.
ومر معنا قريبا أن الظاهر هو اللفظ الذي يحتمل معنيين وهو راجح في أحدهما من حيث الوضع، ولذلك كان متضح الدلالة، إلا أن اتضاح الدلالة من جهة الوضع راجعة إلى جملة من الأسباب3:
السبب الأول: الحقيقة، يعني إذا كان اللفظ يحتملها ويحتمل المجاز فإن الحقيقة ظاهرة فيه.
والحقيقة هي: “اللفظ المستعمل فيما وضع له”.
ومثاله: كإطلاق لفظ الأسد على الحيوان المفترس.
قال الناظم4 مبينا هذا السبب من أسباب الظهور:
أو كونه حقيقة فيه وفي *** سواه لا عنه المجاز ينتفي
وهي ما استعمل فيما وضعا ** له بذاك الوضع حيث وقعا
السبب الثاني: الانفراد في الوضع، فالجمهور على أن الأصل في الألفاظ الانفراد لا الاشتراك، فوجب انفراد اللفظ بأحد المعنيين بالوضع، و أن تكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز، ومثاله: ما احتج به جمهور الأصوليين على أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام محمول على الإيجاب وهو قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، أما المخالف فيقول: يحتمل أن يراد بظاهره الأمر القولي، ويحتمل أن يراد الشأن والفعل، والصواب مع الجماهير لأنه متى دار احتمال الاشتراك والانفراد كان الغالب على الظن الانفراد.
السبب الثالث: التباين، أي أن الظاهر هو التباين، وفي مقابله الترادف، ومثاله ما احتج به المالكية على أن التيمم عام جوازه بكل ما صعد على الأرض وذلك قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا طيبا) بخلاف من خص الصعيد بالتراب، فيقال: لفظ الصعيد يباين التراب وحينئذ يصدق على كل ما على وجه الأرض، فيقدم التباين على الترادف فتأمل.
السبب الرابع: الاستقلال أي أن يكون اللفظ مكتفيا بذاته لا يتوقف معناه على تقدير خلافا للإضمار، فالقاعدة أنه إذا دار اللفظ بين أن يكون مستقلا أو مضمرا فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير لقلة اضطرابه وهو الأصل.
مثاله ما احتج به بعض المالكية على حرمة أكل السباع وهو قوله عليه الصلاة والسلام عند مسلم رحمه الله: “أكل كل ذي ناب من السباع حرام”، فيقول المخالف إنما أراد ما أكلته السباع، لا أن السباع لا تؤكل، والجواب أن قول المخالف معناه: أن مأكول كل ذي ناب من السباع حرام، وبهذا لا يكون الكلام في الحديث مستقلا والأصل في الكلام الاستقلال.
السبب الخامس: التأسيس وهو اللفظ الذي يفيد معنى لم يفده اللفظ السابق له بخلاف التأكيد.
قال الناظم:
وما أفاد معنى ما جديدا *** فادعه تأسيسا تكن رشيدا
وما أفاد ما بغيره أفيد *** فادعه توكيدا وهذا ما تريد
الحقائق المكللة 169.
والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، أو بتعبير آخر: الأصل في الكلام الإفادة لا الإعادة، فإذا دار اللفظ بين حمله على التأسيس أو التأكيد حمل على الأول.
السبب السادس: الترتيب وفي مقابله التقديم والتأخير ومثاله: ما احتج به المالكية على أن العود في الظهار شرط في وجوب الكفارة لقوله تعالى: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا)، فيقول المخالف: تقدير الآية والذين يظهرون نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم يعودون لما قالوا، وهذا خلاف الأصل وهو: الترتيب.
السبب السابع: العموم وهو اللفظ المستغرق لكل ما يصلح له، وفي مقابله: الخصوص.
والقاعدة عند أهل العلم أن الأصل بقاء العام على عمومه، وكذا يقال ذلك في حق المطلق فتنبه، فلا يصح التخصيص ولا التقييد إلا بدليل.
قال الناظم5 في بيان ما سبق من أسباب الظهور:
وظاهر اللفظ انفراد لا اشتراك *** تباين ثمت تأسيس كذاك
كذاك ترتيب مع استقلال *** ثم بقا العموم في الأقوال

وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. وسماه بعض الأصوليين “نصا غير صريح” انظر معجم اصطلاحات أصول الفقه لعبد المنان الراسخ 88، والظاهر يحتمل التخصيص والنسخ والتأويل، والمراد بهذا الأخير في هذا السياق: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى احتمال مرجوح بدليل يدل عليه.
2. أي: إذا قام الدليل على قصد المعنى المحتمل المرجوح فإنه يصرف إليه.
3. انظرها في مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني المالكي رحمه الله ص:470 فما بعدها دراسة وتحقيق محمد علي فركوس حفظه الله.
4. نظم الشيخ محمد بن عبد الله بن الإمام لمفتاح الوصول للتلمساني المالكي ص:92 – مع شرحه.
5. نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *