تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك -الحلقة السادسة عشرة- الاستحسان (التتمة..)

ذهب طائفة من علماء المالكية إلى تعريف الاستحسان في مذهبهم بأنه “دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه” أو هو “معنى خفي تضيق العبارة عنه”.

وقد رفض العلماء ومنهم جمع من المالكية هذا الاتجاه في معنى الاستحسان والاستدلال به على الأحكام.
قال العلامة الخضر حسين رحمه الله: “ومن فسر الاستحسان بدليل يقذفه الله في قلب المجتهد تقصر عنه عبارته، فقد فسره بما تتضافر أصول الشريعة على إسقاطه وإخراجه من دائرتها” رسائل الإصلاح 2/160.
وفي ذلك قال صاحب المراقي 423- مدارج الصعود:
ورد كونه دليلا ينقدح ويقصر التعبير عنه متضح
وفي مصباح العقول بنظم أصول ابن باديس المالكي رحمه الله ص: 250:
وما من الأقوال قد ترجحا *** أخذ به مستحسن قد صلحا
مثل القياس ظاهرا تحوشيا *** لغيره من الدليل فادريا
أما الذي أدركه تصورا *** ولم يكن لعجزه قد عبرا
مستبعد ولم يكن قد صلحا *** فالعلما معبرون صرحا
وهذا الذي أنكروه لا شك أنهم مصيبون في إنكارهم له، إذا ظهرت الأدلة وبانت، فإنه لا يجوز العدول عن مقتضى الأدلة إلى مجرد الاستحسان القلبي والنظر العقلي، ولكن هناك حالات يجدها كل عالم في نفسه مقبولة، وهي الحالات التي لا يجد العالم دليلا شرعيا في المسألة أو نظر في الأدلة فتكافأت عنده، ثم وجد في قلبه طمأنينة لواحد من الأقوال، أفلا يكون هذا مرجحا للأخذ بهذا الحكم؟
الصحيح أن هذا يعد دليلا إذا كان العالم الذي انقدح الدليل في نفسه تقيا ورعا واسع العلم، ولكنه دليل في حق نفسه فحسب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه.
لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي، وعلى هذا التقدير ليس من هذا، فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله وبغض ما يكرهه الله إذا لم يدر في الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه ورأى قلبه يحبه أو يكرهه كان هذا ترجيحا عنده كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
ففي الجملة متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي؛ والذين أنكروا كون الإلهام طريقا على الإطلاق أخطئوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقا شرعيا على الإطلاق.
ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة؛ والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه.. وأيضا فالله -سبحانه وتعالى- فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف وبغض المنكر فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان منوَّرة بنور القرآن وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله وذلك أن الله علم القرآن والإيمان” الفتاوي 10/472-473-474.
وعليه فتفسير الاستحسان بالدليل ينقدح في قلب المجتهد لا يستطيع التعبير عنه كما ذهب إليه طائفة من المالكية في آخرين لا يبعد حمله على ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ومن تم فليس هو من الهوس إذا لم يمكن التعبير عنه بجلاء لدقته وخفائه فتأمل.
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينا أو ظنا فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى فإنه إلى كشفها أحوج لكن هذا في الغالب لا بد أن يكون كشفا بدليل؛ وقد يكون بدليل ينقدح في قلب المؤمن ولا يمكنه التعبير عنه وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان.
وقد قال من طعن في ذلك -كأبي حامد وأبي محمد-: ما لا يعبر عنه فهو هوس وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه ، وكثير من الناس يبينها بيانا ناقصا.. وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية؛ لكن إن مثل هذا يكون ترجيحا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة، فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعا فإن التسوية بينهما باطلة قطعا” الفتاوي 10/476-477.
والذي يظهر -والعلم عند الله- بعد هذا البيان أن الخلاف بين من أنكر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه، ومن أخذ به واعتبره خلاف لفظي ونزاع صوري ووجه ذلك ما ذكره ابن الحاجب رحمه الله حيث قال في خصوصه: “إن شك في كونه دليلا فلا نزاع في رده، وإن تحقق فلا نزاع في التمسك به، فيرجع النزاع لفظيا” منتهى الوصول والأمل 207.
وفي الختام نقول: أن من تأمل تعريف العلماء للاستحسان عموما، وما قالوه فيه تبين له أنه ليس دليلا مستقلا فتنبه، وإنما هو ترجيح دليل على دليل، والقصد أنه منهج في الاجتهاد وليس دليلا مستقلا في نفسه، كما قال العلامة الشوكاني رحمه الله: “إن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه، لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجا عنها، فليس من الشرع في شيء” إرشاد الفحول 241.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *