من أعظم نعم الله تعالى نعمة الإفصاح عما في الضمير، ولذا امتن الله عز وجل على العباد بها فقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، والمعنى: التبيين عما في الضمير، وهذا شامل للتعليم النطقي وللتعليم الخطي.
وعليه فالبيان أو الإفصاح يكون باللفظ أو بالخط وهذا الأخير له شأن عظيم ، فما دوِّنت العلوم، ولا قيِّدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى.
والعلم كان في العهود الأولى للإسلام يتلقى مشافهة، ومنذ ظهور تدوين العلوم قامت الكتابة مقام التلقي المباشر(1).
وفي هذا المعنى يقول(2) ابن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله: “..وإن كانت الكتب في آخر الزمان خزائن العلوم، فإن مفاتيح مغالقها الصدور، وقد كان العلم في الصدر الأول خزائنه الصدور ولم تكن كتب، وصار في آخر الزمان أكثره في الكتب وأقله في الصدور، وكثرت الكتب بالشرح والتأليد(3) والتفسير” النوادر والزيادات 1/8.
إلا أن العلماء في خصوص الفقهيات تمثيلا ومنهم السادة المالكية رحمهم الله نبهوا على الاحتياط عند التلقي من الكتب والفتيا حتى في المذهب الواحد، إذ لا يجب الاعتماد إلا على الصحيح من الكتب والموثوق في نقلها، والمحررة فصولها ومسائلها.
ولذلك قال الشيخ أبو العباس أحمد الهلالي المالكي رحمه الله حين ذكر الكتب المعتمدة في الفتوى وغيرها: “وبالجملة لا بد للمفتي من بصيرة يميز بها الغث من السمين، والحصباء من الدر الثمين” نور البصر ملزمة 21 ص:2.
ومن تم فمن مسالك تحقيق الأقوال وتحريرها في المذهب المالكي كأنموذج نقلها من الكتب المعتمدة، ذلك أن الكتب المؤلفة في المذهب المالكي ليست على درجة واحدة من التحقيق والاستيعاب، وليست متساوية في دقة العزو والاستنباط ، فهناك مؤلفات حررها الشيوخ الراسخون في علم الفقه ممن اتصفوا بحدة الذهن، وسعة الحفظ، وشدة التدقيق، فجاءت محررة المسائل، دقيقة النقل، سديدة في الترجيح، ولذا فهي عالية المنزلة، قد حازت القبول، واستحقت أن يعتمد عليها.
وهناك مؤلفات لم تدرك جميع الصفات المتقدمة فتأخرت رتبتها عند أرباب الصنعة الفقهية فقل اعتمادهم عليها إلا في محال خاصة معينة، أو طرح اعتبارها كلية.
كل هذا يستوجب على المتفقه المالكي خاصة التثبت من الكتب في مذهبه دراية ورواية فيما ينقلها منها من مسائل فقهية ذلكم أنه وصل الأمر إلى الحد الذي أخبر عنه المقري المالكي رحمه الله بقوله: “لقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها، ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها، وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع، وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع، ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف، وانقطعت سلسلة الاتصال، فصارت الفتاوي تنقل من كتب لا يدرى ما زيد فيها مما نقص منها، لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها، ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي، لكونه لم يصحح عليه ولم يؤخذ عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط، ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين، فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين ولم يكن هذا فيمن قبلنا فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها ولم يستعمل منها على كره من كثير منهم غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد، ثم كان أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر حظه، وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه وحل لغوزه ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلا عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح، بل هو حل مقفل وفهم أمر مجمل ومطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس، فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ، أتيحت لنا تقييدات للجهلة بل مسودات المسوخ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك ما غفل عنه الناس” المعيار المعرب للونشريسي المالكي رحمه الله 2/ 479.
ولهذا لم يكن الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله في نقله عن المصـادر كحـاطب ليل -يأخذ من أيّ مصدر يجده- وإنما كان يأخذ الفقه من كتب الأقدمين المشاهير(4)، يقـول في إحـدى أجـوبته: “وأما ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك منيّ بحمد الله محض رأيي، ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين كابن بشيـر، وابن شـاس، وابن الحاجب، ومن بعدهـم” الفتاوى له، ص:120-121، وانظر: نيل الابتهاج ص:50.
ويضيف الشاطبي بأن بعـض العلمـاء أوصـاه بالابتعاد عن كتب المتأخـرين فيقول: “ولأنّ بعـض من لقيته من العلماء بالفقه أوصـاني بالتحامي عن كتب المتأخريـن، وأتـى بعبارة خشنـة في السمـع(5)، لكنها محـض النصيحة وأظنـكم في هذا الاستقصـاء كالمتساهـلين فـي النقـل عن كل كتاب جـاء، وديـن الله لا يحتمـل ذلك لمـا تحقـّقه مـن أصــوله” الفتاوى له 121.
والمطلوب في الكتب التي يعتمد عليها في الفتاوي والأحكام، في العبادات والمعاملات، أن يثبت عند العامل بها والمفتي والحاكم أمران:
أولهما: صحة نسبتها إلى مؤلفها.
وثانيهما: صحتها في نفسها.
أما الأول فيثبت باشتهار الكتاب عن صاحبه تواترا واستفاضة أو بتداول أصحابه وتلاميذه له، أو نقل من بعده منه، أو بذكره في كتب التراجم أو الكتب المخصصة لفهرسة الكتب، كما يثبت بالنسخ الخطية أو بالإسناد الثابت إلى صاحبه فإن “الأسانيد أنساب الكتب”(6)، فبهذه المسالك يتميز الأصيل من الدخيل، وينتفي المدخول والمنحول.
وأما الثاني فيثبت بموافقته للتقعيد الصحيح، والضبط الفصيح، والنظر الفقهي المليح، وتعرف هذه الموافقة باشتهار ذلك عند أهل الشأن، وثناء أهل الخبرة، كما يعرفها المجتهد بموجب اجتهاده، والمتبصر بمقتضى تبصره، والمقلد بتقليده لمن يعتد بهم في ذلك من العلماء والطلبة النجباء الذين تميزوا بالنظر السديد ممن مارسوا ذلك الكتاب، وميزوا القشر من اللباب، مع التنبيه أنه لا بد للمفتي والحاكم في ذلك من اطلاع واسع، وفهم ثاقب، فقد يكون الثناء على الكتاب باعتبار غالبه بل هو الغالب، ويوكل ما سواه إلى تمييز الطالب. انظر نور البصر للهلالي المالكي رحمه الله ملزمة 10 ص: 5- 6.
………………………………………
1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:” الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم ” الفتح 1/204.
2. قال القائل :” كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال ” نقله الشاطبي المالكي رحمه الله في الموافقات 1/98 ولم يعزه ، والظاهر أنه هو نفسه كلام ابن أبي زيد رحمه الله المذكور أعلاه إلا أنه منقول بالمعنى والعلم عند الله.
3. تألد : تحير ، وهو يعني هنا المسائل التي يفترض حدوثها ويتوقع نزولها.
4. ما ذهب إليه الإمام الشاطبي رحمه الله من تقديم كتب المتقدمين على كتب المتأخرين محمول على الغالب فتنبه.
5. والعبارة الخشنة الـتي أشـار إليها الشاطبي المالكي رحمه الله في نصّ الفتـوى كان ينقلهـا – رحـمه الله – عن أستاذه أبي العبـاس أحمد القبّاب رحمه الله، حيث كان يقـول في ابن بشير و ابن الحاجب، وابن شاس رحمة الله عليهم :”أنهم أفسدوا الفقه ” انظر المعيار المعرب للونشريسي المالكي رحمه الله 11/142.
6. نقلها الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض الفضلاء كما في فتح الباري 1/5 ، وهذا الفاضل من مشايخ الحافظ كما نص عليه الكتاني رحمه الله في فهرس الفهارس 1/82، وانظر المقولة كذلك في الفضل المبين للقاسمي رحمه الله 94، وكذا النظائر للشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله 285.