تنوير الحوالك مذهب مالك ببيان أصول الحلقة الثانية– رشيد مومن الإدريسي

وقع الاختيار في تقرير أصول المذهب المالكي على منظومة أحمد ابن أبي كف المحجوبي الشنقيطي رحمه الله؛ والتي نظم فيها تلكم الأصول بذكر أساسياتها دون التعرض لتفاصيلها وعوارضها الذاتية، وقد أرجعها إلى ستة عشر أصلا وفي ذلك قال ناظما رحمه الله:

الحمد لله الذي قد فهما *** دلائل الشرع العزيز العلما
ثم الصلاة والسلام أبدا *** على النبي الهاشمي أحمدا
وآله الغر وصحبه الكرام *** والتابعين لهم على الدوام
وبعد فالقصد بذا النظم الوجيز *** ذكر مباني الفقه في الشرع العزيز
فقلت والله المعين أستعين *** وأستمد منه فتحه المبين
أدلة المذهب مذهب الأغر*** مالك الإمام1 ستة عشر
ثم بدأ بعد رحمه الله بتقرير هذه الأصول مفتتحا بأجلها فقال:
نص الكتاب ثم نص السنة *** سنة من له أتم المنه
فحصلت البداءة بكتاب الله تعالى ولا شك في أوليته؛ فقد اتفق الأئمة كلهم رحمهم الله على حجية كتاب الله تعالى دون منازع، ومن هؤلاء الأئمة الإمام مالك رحمه الله، فإن القرآن الكريم هو سيد الأدلة ورأسها وأساسها وأعلاها، ذلك لأن بقية الأدلة المرعية والمصادر الشرعية استمدت حجيتها منه، فحجية السنة دل عليها قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وحجية الإجماع دل عليه قوله سبحانه: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)، وهذه أصول الأدلة النقلية، وأما القياس فدل عليه قوله تعالى: (فاعتبروا يأولي الأبصار)، وعليه فالأصول الشرعية ترجع إلى أصل واحد وهو القرآن الكريم، وأما السنة والإجماع والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب.
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “..فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته، ويتدبر حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبين غرائبه..
ثم جعل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بيان ما كان منه مجملا، وتفسير ما كان منه مشكلا، وتحقيق ما كان منه محتملا، ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به، ومنزلة التفويض إليه..
ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا باجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم..
فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا” الجامع لأحكام القرآن 1/2.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في المرتقى 404- شرحه:
أصل الأدلة القرآن ما كتب *** في المصحف الذي اتباعه يجب
أنزله سبحانه على النبي*** وقال فيه بلسان عربي
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “فكتاب الله هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدرك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى ..” الموافقات 3/43.
وقال ابن جزي المالكي رحمه الله عن القرآن: “وهو أصل الأدلة وأقواها ..” تقريب الوصول إلى علم الأصول 115.
وبعد القرآن نص الناظم رحمه الله على أصل سنة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام فهي حجة كما يحتج بكتاب الرحمن لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).
قال صاحب المراقي في تعريفها وحدها:
وهي ما انضاف إلى الرسول *** من صفة كليس بالطويل
والقول والفعل وفي الفعل انحصر *** تقريره كذي الحديث والأثر
والسنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، ولذا صارت في مأخذ الأحكام كالقرآن.
قال ابن عاصم المالكي في المرتقى ص:586؛ شرحه:
للقول والفعل وللاقرار *** قسمت السنة بانحصار
قول الرسول عند أهل الشان *** في مأخذ الأحكام كالقرآن
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “.. فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية.
وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة، وينبوع لها فهو دليل على ذلك، لأن الله قال: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وفسرت عائشة رضي الله عنها ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدل على أن قوله، وفعله، وإقراره، راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ..فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه، ذلك معنى كونها راجعة إليه” الموافقات 4/12.
وفي موضع آخر قال: “فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة لأنه إذا كان كليا وفيه أمور كلية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر في بيانه، وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة فإنهم أعرف به من غيرهم”.
وطرق بيان السنة للقرآن مختلفة ومتنوعة فهي تعمل على تفصيل مجمله، أو تخصيص عامه، أو تقييد مطلقه، مع التنبه إلى استقلالها بتشريع بعض الأحكام باعتبار؛ فتنبه.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. مما هو معلوم عند الدارسين والباحثين المحققين أن تقديم إمام على آخر وتفضيله لا بأس فيه بشرط عدم التعصب المقيت، وأن يكون هذا التفضيل في دائرة الفضل فتأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *