مسالك علماء المذهب في تحقيق المذهب المذهب المالكي أنموذجا “مقدمة في بيان تحذير علماء المالكية من التخير بين الأقوال إتباعا للهوى والشهوة” -الحلقة الثانية- رشيد مومن الإدريسي

قال إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي رحمه الله: “دخلت يوما على المعتضد فدفع إلي كتابا فقرأته، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق، فقال: كيف؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر بتحريق ذلك الكتاب” البداية و النهاية لابن كثير رحمه الله 11/87.

أما احتجاج بعضهم على هذا الترخص المنكوس بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: “بعثت بالحنيفية السمحة” فقد رده الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله حيث قال: “وأنت تعلم.. ما في هذا الكلام لأن الحنيفية السمحة إنما أتى السماح فيها مقيدا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي ثابت، فما قاله عين الدعوى! ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضا لقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) فلا يصح أن يردَّ إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة، وهي تبين الراجح من القولين فيجب إتباعه” الموافقات 4/145.
قال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد، والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب، وحب الرياسة، والتقرب إلى الخلق دون الخالق، ونعوذ بالله تعالى من صفات الغافلين” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 271.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: “صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، إتباعا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا1، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب إتباعا للغرض والشهوة” الموافقات 4/85.
وقال الإمام أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله2: “وكثيرًا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟ وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي، ..فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!” نقله عنه الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/140.
وقال الإمام القرافي المالكي رحمه الله بعد أن ذكر شروط التخريج على أقوال الأئمة: “فالناس مهملون له إهمالا شديدا، ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى، والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة بها، فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات والتخصيصات من منقولات إمامه، وذلك لعب في دين الله تعالى، وفسوق ممن يتعمده” الفروق: الفرق 78.
وقال الإمام المازري المالكي رحمه الله وقد استفتي في مسألة وطلب منه الترخيص: “ولست ممن يحمل الناس على غير المشهور3 من مذهب مالك وأصحابه، لأن الورع قلَّ بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب4، وهذه من المفسدات التي لا خفاء بها” نقله عنه الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/146.
وحكى أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله عن بعض أهل زمانه ممن نصب نفسه للفتوى أنه كان يقول: “إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وقال وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وأنه كان غائبا فلما حضر سألهم بنفسه فقالوا لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه، قال وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز، وقد قال مالك رحمه الله في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد” نقله عنه الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 4/211.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. فما القول في زماننا والله المستعان!!
2. في كتابه “التبيين لسنن المهتدين”.
3. هذا مقيد إذا كان القول له حظ من النظر، مع التنبه هنا أن إيراد كلمة المازري رحمه الله القصد منها بيان تحذير المالكية رحمهم الله من الترخص الممنوع، وإلا فأخده رحمه الله بالمشهور مطلقا قول مرجوح حيث أن مذهبه رحمه الله في آخرين من المالكية تقديم المشهور وهو الذي كثر قائلوه على الراجح الذي قوي دليله، والصواب والحق تقديم الراجح على المشهور وهو القول الثاني عند المالكية، مال إليه ابن العربي المالكي رحمه الله في أحكام القرآن 2/114، وقرره الهلالي المالكي رحمه الله في نور البصر 4، وسيأتي معنا بيان أوجه صحة ذلك إن شاء الله.
قال الصنهاجي المالكي رحمه الله:
مشهورهم لراجح تعارضا يقدم الراجح وهو المرتضى.
مواهب الخلاق 2/237.
4. ولو قال: هيبة الشرع لكان أصوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *