“صلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون”
مما يدل على شرف أهل السنة والحديث وفضلهم: أنهم القائمون بالتمييز بين الصحيح والسقيم من الحديث، وعليه كان من المعالم المتينة في باب الاستدلال عندهم بل هو أولها: ضرورة النظر في ثبوت الدليل قبل التفريع عنه والاعتماد عليه1، فالخبر الذي لا صحة له لا ينظر في أعطاف متنه.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: “فلما لم نجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله، ولا من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا من جهة النقل والرواية، وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم، وأهل الحفظ والتثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة، والوهم، وسوء الحفظ، والكذب، واختراع الأحاديث الكاذبة”2.
ولذا جعل أهل السنة والحديث “الإسناد من الدين3، ولا يعنون: حدثني فلان عن فلان مجردا بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول، ولا مجروح، ولا متهم، إلا عمن تحصل الثقة بروايته، لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة: أن ذلك الحديث قد قاله عليه الصلاة والسلام لنعتمد عليه في الشريعة، وتسند إليه الأحكام “4.
وثبوت صحة الخبر عند أهل السنة والحديث قائم على النظر إلى كل من السند والمتن لما علم من “أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحته فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها صحة سنده وانتفاء علته وعدم شذوذه ونكارته وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم”5.
وهذا يؤكد لنا أن المنهج النقدي للأخبار عند أهل السنة والحديث شامل لكل جوانب الحديث ما دق منها وما جل، والمنصف لا يسعه إلا أن يقف إجلالا واحتراما لهذا المنهج القويم، وللجهد المضني الذي بذله علماؤنا الأكابر في ذلك، حتى خرجوا بأحكام سليمة على الأحاديث النبوية، حفظت بها السنة المطهرة من عبث كل عابث.
ولم يأت ذلك المنهج إلا بعد عمل دؤوب، وبذل جهد منقطع النظير، وشدة انتباه وحرص، ودقة تطبيق، وقوة تمييز، أذهلت العالم بأسره، وما ذلك إلا بتوفيق من الله سبحانه الذي أراد حفظ سنة نبيه فهيأ لها من الأسباب ما أدى إلى بقائها.
والذي يريد أن يقف على متانة منهج أهل السنة والحديث في قبول الأخبار فعليه أن يلقي نظرة على هذه المؤلفات التي لا تحصى عددا في كل فن من فنون الحديث، وما بذل فيها من عناية فائقة لا مثيل لها، فإنه لا يملك -إن كان منصفا- إلا أن يسجل اعترافا لأولئك القوم الأماجد بكمال منهجهم وشموليته ووضوحه ودقته.
فما أحوجنا إلى السير على وفق منهاج أئمتنا في قبول الأخبار، والنظر في ثبوت الدليل خاصة في هذا الزمن الذي ضاع فيه هذا الميزان والأخذ به عند الكثيرين من المثقفين والمفكرين، وأهل الأهواء من العقلانيين والعلمانيين6 وغيرهم.
بل العجيب في ذلك أن بعض هؤلاء قد أدخل نفسه في صنعة الحديث دون الولوج من بابها، وبلا سعي حثيث، مع أنه “ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال7 خبيرا بالمنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها وصوابها وخطئها فضلا عن العامة” 8.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله: “اعلم رحمك الله أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبي عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث، ومعرفة الرجال، من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقل الأخبار، وحمال الآثار.
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلونهم منازلهم، في التعديل والتخريج.
وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكي نثبته من جهل مذهب أهل الحديث، ممن يريد التعلم، والتنبيه على تثبيت الرجال وتضعيفهم، فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، وأسقطوا من أسقطوا منهم”9.
ولأجله كان “أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة10، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية، وطلب العلو فيه أمر مطلوب وشأن مرغوب”11.
فكيف بمن يُعرض عن أهل الحديث وصنعتهم ويُزِّهد فيهم، ويصفهم بأشنع الأوصاف كالسطحية والظلامية وغيرها، وهو أولى في الحقيقة بذلك.
فإن “مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم”12 و”مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب الليل”13.
وحاطب الليل لا يعمل على بصيرة من أمره، وإنما يسير على غير هدى، فلا يدري ما الذي يجمعه، ولا يطمئن لذلك، وإنما يخبط خبط عشواء، فيستدل بالضعيف والموضوع والمنكر والباطل والذي لا أصل له ومع ذلك يدعى الصلاح والإصلاح!!
قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “صلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة فقد مس العلم بقرحة، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة.
لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأسنى فضيلة، أو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة، وأمثال هؤلاء لا تجد الأمانة في نفوسهم مستقرا، فلا يتحرجون أن يرووا ما لم يسمعوا، أو يصفوا ما لم يعلموا، وهذا ما كان يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال، وتمييز من يسرف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم، حتى أصبح العلماء على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه فلا تخفى عليهم منزلته، من القطع بصدقه أو كذبه، أو رجحان أحدهما على الآخر، أو احتمالهما على السواء”14.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “..تجريد المتابعة (أي: للنبي عليه الصلاة والسلام) أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولا..” الروح 264.
2. الجرح والتعديل 1/5.
3. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: “الإسناد من الدين” مقدمة صحيح مسلم 15، وقال سفيان الثوري رحمه الله: “الإسناد سلاح المؤمن” سنن الدارمي 1/112.
4. الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله 1/225.
5. الفروسية للإمام ابن القيم رحمه الله 245-246.
6. انظر على سبيل المثال كتاب (الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون و محمد عابد الجابري) لخالد كبير علال، ومما جاء فيه: “وبذلك يتبين أن الجابري في تعامله مع الأحاديث النبوية لم يلتزم المنهج العلمي الصحيح، من حيث التخريج والتحقيق، وعمله هذا لا شك أنه يُثير في القراء إشكالات، واضطرا بات وشكوكا عندما يذكر أحاديث منسوبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، من دون تحقيق، ولا تخريج صحيح، كما أنه من حقهم عليه أن يُنير لهم الطريق، ولا يُبلبل أفكارهم بالأحاديث الضعيفة، والمشكوك فيها، وغير الموثقة”!!!
7. من كلمات الإنصاف ما ذكره الباطنيُّ أبو حَيَّان التوحيدي حيث قال: “ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة، ولم يأت الجدل بخير قط . وقد قيل: (من طلب الدين بالكلام ألحد، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر)، وما شاعت هذه الوصية جزافاً ، بل بعد تجربة كررها الزمان، وتطاولت عليها الأيام” الإمتاع والمؤانسة 1/126.
8. منهاج السنة 7/302
9. كتاب التمييز لمسلم بن الحجاج 218-219.
10. قال الإمام الطيبي رحمه الله في خلاصته 55: “الإسناد خصيصة هذه الأمة، وسنة من السنن البالغة، وطلب العلو فيه سنة أيضا ولذلك استحبت فيه الرحلة”، وانظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني رحمه الله 5/453
11. قاله الشيخ علي القاري رحمه الله في شرحه على شرح النخبة 194.
12. الكفاية للخطيب البغدادي رحمه الله 393.
13. شرح المواهب اللدنية 5/453.
14. رسائل الإصلاح 1/13.