ليس كل ما في المذهب يجوز أن ينسب لإمام المذهب الإمام مالك رحمه الله أنموذجا -الحلقة الثانية- رشيد مومن الإدريسي

مر معنا في الحلقة الأولى تقرير أنه ليس كل ما في المذهب المالكي يصح أن ينسب للإمام مالك رحمه الله باعتباره إمام المذهب، والذي يؤكد ذلك أنه لا يجوز أن ينسب لساكت قول لم يقله، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله1: “لا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل، وإنما ينسب إلى كل قوله وعمله” الأم 1/152.

قال أبو القاسم الأهدل رحمه الله ناظما:
اعلم هديت أنه لا ينسب *** لساكت قول كما قد أعربوا
وهذه العبارة المذكورة *** عن الإمام الشافعي مأثورة
متن الفرائد البهية 42.
مع التنبيه أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها بناء على قول العلماء “من القواعد عدم اضطراد القواعد”، وعليه يستثنى من ذلك أحوال ينزل الساكت فيها منزلة المتكلم، ويبنى على سكوته أحكام القائل المتكلم للقاعدة الفقهية: “السكوت في معرض الحاجة بيان” شرح القواعد الفقهية لمحمد الزرقا رحمه الله 196، والمادة 67 من مجلة الأحكام العدلية.
وفي ذلك يقول الأهدل رحمه الله ناظما بعدما ذكر القاعدة المأثورة عن الشافعي رحمه الله كما سبق:
وربما استثني من هذي صور *** منها سكوت البكر إذن معتبر
إلى أن قال:
ولو قرا بحضرة الشيخ وقد *** سكت فهو مثل نطقه يعد
متن الفرائد البهية 42_43.
وضابط هذا الاستثناء: إذا صاحبت الساكت قرائن وأحوال تدل على البيان. انظر المنثور في القواعد للزركشي رحمه الله 2/206.
وعليه قرر أهل العلم أن مذهب الإنسان ما قاله، واستمر على القول به إلى أن لقي ربه، وفي ذلك يقول الشعراني: “مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله، ولم يرجع عنه إلى أن مات، لا ما فهمه أصحابه من كلامه، فقد لا يرضى الإمام ذلك الأمر الذي فهموه من كلامه، ولا يرضى به لو عرضوه عليه، فعلم أن من عزا إلى إمام كل ما فهم من كلامه فهو جاهل بحقيقة المذاهب” الميزان 1/65.
ولذا فمن المهمات عند هذا المقام التفرقة بين المتقدم والمتأخر من قولي الإمام، فإن المعتمد: المتأخر إن تضادا.
قال العلامة الشاطبي المالكي رحمه الله: “رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له للثاني، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع، والحق فيه ما ذكر أولا” الموافقات 5/214.
وقال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع 2/701:
وحيث عن مجتهد قولان *** تعاقبا فالقول عنه الثاني
ومجال هذه القاعدة على الصحيح التعارض والتضاد بين القولين أو الدلالة من المجتهد على تغير اجتهاده الأول2.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: “فإن كان للمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوع عن القول الأول بدلالته على تغير اجتهاده الأول” إرشاد الفحول 2/236.
ونقلا عن الصوارم والأسنة للعلامة الشنقيطي رحمه الله 108 قال العلامة محمد بن أحمد يور الديماني رحمه الله في نظمه المسمى سلم الوصول إلى مهمات من الأصول:
إن جاء عن مجتهد قولان *** تعارضا فالمستمر الثاني.
ومنه كان الأئمة ومنهم إمامنا مالك رحمه الله أثناء مسيرتهم العلمية دائمي التصحيح والتنقيح لمذاهبهم، فالأئمة بشر، يصيبون ويخطئون، وكلما امتد بهم العمر قويت ملكتهم العلمية، وحازوا علما لم يطلعوا عليه من قبل، وهم كانوا أورع وأتقى من أن يقيموا على خطأ تبين لهم الصواب في خلافه.
نقل أبو شامة رحمه الله في المؤمل في الرد إلى الأمر الأول 3/33 عن الإمام مالك رحمه الله قوله: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”3.
وعليه فمن أراد أن يعزو مسألة أو رأيا إلى إمام فلابد أن يتخذ صورا صحيحة، وثمة أربع صور مشهورة ذكرها جماعة ومن أولئك: أبو الحسين البصري رحمه الله في المعتمد في أصول الفقه (2/865).
أول تلك الطرق: أن يحكم الإمام في المسألة بعينها حكما واضحا بيناً.
وليعلم أن دلالة النص غير دلالة الظاهر والاحتمال أو الإجمال, فالدلائل أنواع عند أهل البلاغة وعند أهل الفقه ذكروا ذلك في دواوين الفقه، وهو لصيق علم أصول الفقه, فإذا قيل نص مالك رحمه الله على هذا أي: له كلام لا يحتمل سوى ذلك الحكم، وهو ما يسمى بدلالة النص عند الفقهاء.
ثم إذا قيل (وهو ظاهر قوله) أي: أن ظاهر قوله يحتمل أكثر من احتمال، إلا أن الراجح من الاحتمال أو الاحتمالين هو ما أنيط به من حكم النسبة، وهكذا قل.
فينبغي أن تكون ذا حذر في قالتك وفي حكمك الذي تنسبه إلى إمامك.
الثاني: أن يقول الإمام قولة عامة ليس ثمة مخصص لها، فيدخل في العموم بدلالته غيره، ودلالة العموم مقصودة عند عامة الفقهاء وهو المعتمد المشهور عند الأصوليين، وعليه: فإدخال المسائل في دلالة العموم: صحيح هنا.
الثالث: أن يعلم أن لا فرق بين مسألتين: واحدة نص عليها، والأخرى سكت عنها، فإذا علم: صح الإلحاق حينئذ، وينبغي أن تكون ذا دراية أن هناك فرقا بين شيئين: بين أن يظن عدم التفرقة وبين أن يعلم لا فرق هناك فالعلم هو التيقن.
فرق بين لفظة: عَلِم يَعْلَمُ عُلِمَ وبين ظنَّ، حيث الظن: هو وجود احتمال، أي: أنك تحكم بأن هناك احتمالا يخالف ما ذهبت إليه ولو ضَعُفَ.
وأما اليقين: فلا وجود لاحتمال مغاير، والمراد هنا أن تعلم (أي:تتيقن) لا أن تظن أن تعلم أن لا فرق بين المسألتين فحينئذ تعزو المسألة إلى أصحابها.
رابع الطرق: أن يُعقد الحكم بعلة يدور معها وجودا وعدما، فحينئذ إن وجدت العلة فيما لم ينص عليه -أي يذكر في كلام الإمام-: فإنه حينئذ يدار الحكم مع العلة في خصوصه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. وهي “من العبارات الرشيقة للشافعي رحمه الله” كما قال الجويني رحمه الله في البرهان 1/448.
2. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الفائدة الأربعون في حكم رجوع المفتى عن فتياه إذا أفتى المفتي بشئ ثم رجع عنه فإن علم المستفتى برجوعه ولم يكن عمل بالأول فقيل يحرم عليه العمل به وعندي في المسألة تفصيل وأنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتي بل يتوقف حتى يسأل غيره فإن أفتاه بموافقة الأول استمر على العمل به وإن أفتاه بموافقة الثاني ولم يفته أحد بخلافه حرم عليه العمل بالأول وإن لم يكن في البلد إلا مفت واحد سأله عن رجوعه عما أفتاه به فإن رجع إلى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه وإن رجع لخطأ بأن له وأن ما أفتاه به لم يكن صوابا حرم عليه العمل بالأول، هذا إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي فإن كان رجوعه لمجرد ما بان له إن ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتى ما أفتاه به أولا إلا أن تكون المسألة إجماعية” إعلام الموقعين 4/223.
3. نقل أبو شامة رحمه الله نحو هذا النقل في المحل نفسه عن الإمام الشافعي رحمه الله ثم قال معقبا على القولين: “وذلك الظن بجميع الأئمة” المؤمل 3/33.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *