منطوق الكلام إذا أشعر بأن المسكوت عنه مخالف له فهو المسمى: بدليل الخطاب؛ لأنه دليل من جنس الخطاب؛ أو لأن الخطاب دال عليه. ويسمى بمفهوم المخالفة؛ لأن المسكوت عنه مخالف للمذكور في الحكم إثباتا أو نفيا فينسب للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به، “وهو الذي يطلق الفقهاء عليه اسم المفهوم في الأكثر.. وهو حجة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة ” تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي المالكي رحمه الله 88.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 249 مع شرحه:
وإن يكن في حكمه قد خالفه فإنه المفهوم ذو المخالفه
وسمي الدليل للخطاب وخصه النعمان باجتناب
ومالك قال به والشافعي وليس في المنطوق خوف مانع
ولذا عده أبو كف أحمد المحجوبي الشنقيطي الدليل الثالث من أدلة مذهب إمامنا مالك رحمه الله الإجمالية وهو المقصود بقوله في نظمه:
ثم الدليل من كتاب الله ثم دليل سنة الأواه
قال ابن القصار المالكي رحمه الله في المقدمة: “ومن مذهب مالك رحمه الله أن دليل الخطاب محكوم به، وقد احتج بذلك في مواضع منها حيث قال: إن من نحر هديه بالليل لم يجز، لقول الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}.
دليله: أنه لا يجزيه إذا نحره بالليل، وكقوله: من دخل الدار فأعطه درهما، ودليله: من لم يدخل فلا تعطه شيئا. وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب. (نقلا عن كتاب أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي ص:356).
وهذا الدليل عشرة(1) أنواع كما قررها غير واحد كابن جزي المالكي في تقريب الوصول 88-89، والقرافي المالكي في تنقيح الفصول ص:270 في آخرين رحمة الله عليهم.
وقد جمعها ابن عاصم المالكي رحمه في مرتقى الوصول 256- مع شرحه حيث قال ناظما:
في الشرط والغاية ذا المفهوم قد****جاء وفي استثنا وحصر وعدد
وجاء في العلة والزمان****والوصف بالخلف وفي المكان
وللذي يلزم حتما اجتنب****من ما سوى الدقاق مفهوم اللقب
وها هي الأنواع بمثالها مرتبة الأقوى فالأقوى على حسب ما ذهب إليه الإمام ابن جزي المالكي رحمه الله:
– مفهوم العلة: نحو (ما أسكر فهو حرام)، فمنطوق هذا اللفظ تحريم المسكر، ومفهومه تحليل غير المسكر.
– مفهوم الصفة أو الوصف(2): نحو (في سائمة الغنم الزكاة)، مع التنبيه أن الفرق بين العلة والصفة، أن العلة سبب الحكم بخلاف الصفة.
– مفهوم الشرط (3): نحو (من تطهر صحت صلاته).
– مفهوم الاستثناء: نحو (قام القوم إلا زيدا).
– مفهوم الغاية: نحو (أتموا الصيام إلى الليل).
– مفهوم الحصر: نحو (إنما الولاء لمن أعتق).
– مفهوم الزمان: نحو (قم الليل).
– مفهوم المكان: نحو (وأنتم عاكفون في المساجد).
– مفهوم العدد: نحو (فاجلدوهم ثمانين جلدة).
– مفهوم اللقب: نحو (في الغنم الزكاة)؛ واللقب هو الإسم الجامد سواء كان علما، أو اسم جنس.
وهذا الأخير أضعف أنواع مفهوم المخالفة كما قال صاحب المراقي 1/112 – نثر الورود ناظما:
أضعفها اللقب وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العربي
“وجمهور العلماء على أن اللقب لا مفهوم له وهو الحق(4) وربما كان اعتباره كفرا فقوله تعالى: (محمد رسول الله) مثلا؛ لو قال أحد فيه بمفهوم اللقب فقال: يفهم منه أن غير رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن رسولا فإنه يكفر بالإجماع” نثر الورود على مراقي السعود 1/112-113.
هذا مع العلم أن للأخذ بمفهوم المخالفة شروط لا بد من اعتبارها من أهمها:
1. ألا يكون القيد خرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم).
قال ابن عاصم المالكي في المرتقى 252- مع شرحه:
والأخذ بالمفهوم في المذاهب ممتنع إن يجر مجرى الغالب
2. ألا يكون في معرض الامتنان، كقوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) فكون اللحم مقيدا بالطراوة لا ينفي أكل القديد مثلا.
3. ألا يكون ذلك لموافقة الواقع، كقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المومنين) فهو بيان لواقع ما نزلت فيه الآية، إذ لا تبيح جواز موالاة الكفار بالجزء أو الكل.
4. أن لا يخرج مخرج التأكيد كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) فلا يفهم منه جواز أكل الربا إذا لم تكن أضعافا مضاعفة.
5. ألا يكون الحكم جوابا عن سؤال، فإذا حصل ذلك لا يكون له مفهوم خارج دائرة ما سئل عنه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “صلاة الليل مثنى مثنى” حين سئل عن صلاة الليل، فلا مفهوم له في صلاة النهار فتأمل.
قال صاحب المراقي 107- نثر الورود ناظما:
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع.
وللبحث بقية..
……………………………………………………..
1. وعند التدقيق فهي ترجع إلى سبعة لأن مفهوم اللقب لا يعتد به على الصحيح كما سيأتي، وكذلك “التحقيق أن مفهوم الظرفين (الزمان والمكان) داخل في مفهوم الصفة” كما في تنوير العقول لمحمد سيد محمد بن مولاي (ص:123) وهو تعليق على نظم مفتاح الوصول.
2. مع التنبيه إلى اختلاف واقع بين المالكية رحمهم الله في اعتباره، حيث ذهب بعضهم إلى عدم اعتماده كالباجي وابن سريج وأبي بكر القفال و أبي بكر القاضي و أبي جعفر القاضي رحمهم الله . انظر أحكام الفصول للباجي رحمه الله (ص:514). وجعله حجة جماهيرهم وعلى رأسهم الإمام مالك رحمه الله، وممن رد إنكار حجيته الإمام القرافي رحمه الله في شرح التنقيح 272
3. وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر من المالكية، وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط فإنه متفق عليه، بل معناه أن هذا الانتفاء ليس مدلول اللفظ. انظر تنقيح الفصول للقرافي رحمه الله 270.
4. وذلك “لعدم رائحة التعليل فيه” انظر شرح تنقيح الفصول 270.
وممن قال به واعتمده الدقاق والصيرفي من الشافعية وبعض الحنابلة، وابن خويز منداد من المالكية رحمة الله على الجميع. انظر نثر الورود 1/113 في آخرين.