من الأدلة الإجمالية في مذهب الإمام مالك رحمه الله ما يسمى بدلالة الاقتضاء، وهو الدليل الخامس على حد ترتيب أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي في نظمه والمعبر عنه في المذهب بالمفهوم حيث قال:
وحجة لديه مفهوم الكتاب من سنة الهادي إلى نهج الصواب
ومفهوم الدلالة لغة يقرر فيه ابن فارس رحمه الله أن لأصل الدال واللام معنيين: “أحدهما: إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والآخر: اضطراب في الشيء” معجم مقاييس اللغة 2/259, والمعنى الأول هو المشهور في تداول أهل اللسان.
أما اصطلاحا: ففي مفهومها العام عند أهل الأصول والعربية هي أن: “يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر” كشاف اصطلاحات الفنون 2/284.
وسميت بـ “دلالة الاقتضاء” لأن المعنى يقتضيه لا اللفظ، أو لاقتضاء الكلام شيئا زائدا على الأصل. انظر نشر البنود على مراقي السعود 1/92، ونزهة الخاطر العاطر 2/171.
وتسمى دلالة الاقتضاء بـ”لحن الخطاب”، واللحن في اللغة: الفطنة وإفهام الكلام من غير تصريح. انظر نيل السول 36.
قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله: “فأما لحن الخطاب فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به وهو مأخوذ من اللحن، وهو ما يبدو من عرض الكلام” إحكام الفصول 507.
وعليه فدلالة الاقتضاء هي: أن يدل اللفظ دلالة التزام على معنى ما.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 240؛ شرحه:
ويحصل القصد من التفهيم *** بالاقتضا واللفظ والمفهوم
لحن الخطاب الاقتضاء ما عرف *** من جهة المعنى وللفهم حذف
وتنقسم دلالة الاقتضاء إلى قسمين اثنين: تصريحي وتلويحي1.
فالتصريحي2: هو أن يدل اللفظ دلالة التزام على معنى لا يستقل المعنى الأصلي بدونه لتوقف صدقه أو صحته عليه، عادة أو عقلا أو شرعا، مع أن اللفظ لا يقتضيه.
وأما التلويحي: فهو أن يدل اللفظ دلالة التزام على معنى يلزم من المعنى الأصلي، لكن لا يتوقف عليه صدقه ولا صحته لا عقلا ولا شرعا ولا عادة.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 242؛ شرحه ناصا على هذه القسمة:
ومنه ما يكون بالتصريح *** مع قصده ومنه بالتلويح
فأول كمقتضي التحليل *** ومقتضي التحريم في التنزيل
والثان مثل (فاقطعوا ) أو (فاجلدوا) في الفهم للتعليل حيث يرد
ومثله ما جاء في الترغيب *** والمدح أو في الذم والترهيب
فالاقتضاء التصريحي إذن يرجع إلى مجالين اثنين في كثير من فروعه:
أولهما: النصوص الدالة على التحليل كقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام)، فالمقدر هنا (الانتفاع) بها بأكل ونحوه.
وثانيهما: النصوص الدالة على التحريم كقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم)، فالمقدر هنا (النكاح) لأن العقل يمنع إضافة التحريم إلى ذات الأمهات.
وعلى وجه التفصيل نقول: مثال الاقتضاء التصريحي الذي لفظه يدل دلالة التزام على معنى لا يستقل المعنى الأصلي بدونه لتوقف صدقه عليه عادة قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق)، فمنطوق الآية أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، وأن البحر انفلق، ومفهومها تقدير (فضربه) قبل قوله (فانفلق) لأن هذا المنطوق لا يصح عادة بدون هذا المفهوم الذي تقديره (فضربه) قبل قوله: (فانفلق) لأن الانفلاق مسبب عادي عن الضرب، ووجود المسبب بدون السبب محال عادة.
ومثال ما توقف صدقه عليه عقلا3 قوله تعالى: (واسأل القرية) فمنطوق الآية الأمر بسؤال القرية، أي: الأبنية المجتمعة، وصحة ذلك عقلا متوقفة على المفهوم الذي هو تقدير (الأهل) قبل قوله (القرية) لأن سؤال القرية نفسها محال عقلا.
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، فإن منطوق الحديث أن الخطأ والنسيان والإكراه مرفوعة عن هذه الأمة، وصدق هذا الكلام متوقف عقلا على المؤاخذة، أي: رفع عن أمتي المؤاخذة بالخطأ…إلخ، لأن نفس الخطأ والنسيان والإكراه غير مرفوع عن هذه الأمة لمشاهدة وقوع هذه الثلاثة منهم حسا.
ومثال ما توقف صدقه أو صحته عليه شرعا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: “لا صلاة لمن لا وضوء له”، فيقدر شرعا لا صلاة صحيحة، ومثله كذلك قوله تعالى: (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة)، والتقدير شرعا (فأفطر) فعدة من أيام أخر.
وبعض أهل العلم يجعلون بدل هذا التقسيم للاقتضاء التصريحي الذي ذكرناه “ما دل عليه اللفظ دلالة التزام على محذوف لا يستقل الكلام دونه لتوقف صدقه عليه أو توقفه عليه عقلا أو شرعا” انظر نثر الورود على مراقي السعود 1/98.
ويجعلون مثال الحديث: “رفع عن أمتي..” يدخل في مجال ما توقف صدقه عليه.
والبعض الآخر من أهل العلم يجعل الأمر يرجع إلى ما توقف على صحته عقلا أو شرعا؛ ومن ذلك قول ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 240؛ شرحه:
والعقل عمدة في الاقتضاء وقد يرى بالشرع في أشياء
وبـ (رفع عن أمتي الخطا) و(لا صلاة إلا بطهور) مثلا
وأما مثال الاقتضاء التلويحي فكقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) فيؤخذ منه صحة صوم من أصبح جنبا لأنه يجوز الجماع في كل جزء من الليل حتى الجزء الأخير منه المتصل بالإصباح.
ومثاله من السنة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “النساء ناقصات عقل ودين، وقيل: ما نقصان دينهن؟ قال عليه الصلاة والسلام: تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي”، فمنطوق الحديث تبيين نقصان دين النساء بكونهن يمكثن شطر الدهر لا يصلين، وذلك يلزم منه أن أكثر أمد الحيض خمسة عشر يوما، فلو كن يمكثن في الحيض أكثر من ذلك لذكره، وخمسة عشر يوما هي شطر الدهر.
ومثل هذا في معناه إذا جاء النص في الترهيب في عمل أو مدحه أو مدح فاعله دل ذلك بالإيماء على طلب فعل ذلك العمل كما في الحديث الحسن قوله عليه الصلاة والسلام: “رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا”.
وكذلك إذا جاء الترهيب من عمل أو ذمه أو ذم فاعله دل ذلك على ترك ذاك الفعل كما في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما).
وللبحث بقية…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. انظر أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي ص: 362 فما بعدها، وإيصال السالك في أصول الإمام مالك ص:36 فما بعدها.
2. دلالة الاقتضاء عند الإطلاق يقصد بها هذا القسم كما في إتحاف ذوي البصائر 6/372، ولذلك عرفت دلالة الاقتضاء بما حُد به الاقتضاء التصريحي ومنه قول صاحب المراقي ناظما:
وهو دلالة اقتضاء أن يدل لفظ على ما دونه لا يستقل
3. وهو الأكثر ورودا، انظر شرح نظم مرتقى الوصول لفخر الدين بن الزبير 241.