اعتنى علماء المذهب المالكي بمراعاة الخلاف اعتناء كبيرا سواء من ناحية التفريع وتخريج الفروع، أو من ناحية الضبط والتأصيل، وما ذلك إلا لأنه من أدلة الإمام مالك رحمه الله التي كان يستدل بها، مع التنبه إلى أنه رحمه الله كان يعمل به تارة ويعدل عنه أخرى كما سيأتي معنا عند الحديث عن شروط ذلك، كما وقع الخلاف في خصوص رعي الخلاف هل يجب على كل مجتهد من المالكية أم لا؟
وفي ذلك قال ابن أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي في نظمه:
ورعي خلف كان طورا يعمل *** به وعنه كان طورا يعدل
وهل على مجتهد رعي الخلاف *** يجب أم لا قد جرى فيه اختلاف
في لسان العرب 14/327: “المراعاة: المناظرة والمراقبة: يقال: راعيت فلانا مراعاة ورعاء إذا راقبته وتأملت فعله”.
ويقال: “راعاه: لا حظه محسنا إليه، فالرعي إذا يأتي بمعنى الاعتبار فقول: رعي فلان فلانا أي: اعتبره وقام له بما يناسبه، أو بمعنى ملاحظة الشيء والتأمل فيه والاعتداد به” انظر تاج العروس 10/153، والمصباح المنير 1/314 في آخرين.
أما الخلاف والمخالفة: “أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر” بصائر ذوي التمييز 2/562.
وقد ورد عن فقهائنا المالكية جملة من التعاريف الاصطلاحية لمراعاة الخلاف ومنها تعريف ابن عرفة المالكي رحمه الله حيث قال: “إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أُعمل في نقيضه دليل آخر” انظر شرح الرصاع على حدود ابن عرفة 177، والمعيار المعرب 6/378.
فقوله (إعمال) جنس لرعي يصدق على رعي الخلاف وغيره كالترجيح أو استنباط الحكم من الدليل ابتداء.
وقوله (دليل) فصل أخرج به غير الدليل كالمقلد الذي يأخذ الحكم من غير معرفة الدليل.
وقوله (في لازم مدلوله) أخرج به إعمال الدليل في مدلوله.
وقد مثل ابن عرفة رحمه الله لتعريفه بإعمال الإمام مالك -رحمه الله- دليل مخالفه القائل بعدم فسخ (نكاح الشغار)1 في لازم مدلول ذلك المخالف، ومدلوله هو عدم الفسخ، الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار عند موت أحدهما، وهذا المدلول الذي هو عدم الفسخ أعمل مالك في نقيضه الذي هو الفسخ دليلاً آخر يقتضي الفسخ عنده.
انظر مراعاة الخلاف في المذهب المالكي ليحيى سعيدي 72، ومراعاة الخلاف لعبد الرحمن بن معمر السنوسي 1314.
وقد قال التسولي المالكي رحمه الله بعد إيراده لتعريف ابن عرفة رحمه الله: “وحاصله أن الدليل هو الحديث أو القياس، والمدلول هو الفسخ أو عدمه، فمالك استدل لفسخه بنص حديث أو قياس، وأبو حنيفة استدل بعدم فسخه بنص حديث أو قياس، فأعمل مالك رحمه الله دليله في الفسخ في الحياة وأعمل دليل خصمه في لازم مدلوله فقال بتوارثهما، ويكون الفسخ طلاقا، مع أن قياس دليله هو عدم توارثهما وهو عدم كون الفسخ بطلاق إذ عدم صحة النكاح تستلزم عدم الإرث وعدم الطلاق” البهجة شرح التحفة 1/10.
والجماهير من العلماء على التسوية بين مراعاة الخلاف والخروج من الخلاف، لكنها تسوية لفظية؛ لأن الخروج من الخلاف هي مراعاة له، لهذا فإن هؤلاء العلماء حينما يتكلمون عن مراعاة الخلاف، فإنما يقصدون الخروج من الخلاف، والعكس صحيح.
أما الفقهاء المالكية فهم يفرقون بينهما، فالخروج من الخلاف عندهم قاعدة مستقلة، ومراعاة الخلاف قاعدة أخرى، فينبغي الانتباه إلى اختلاف استعمال المالكية للمصطلحين: (الخروج من الخلاف، ومراعاة الخلاف) عن استعمال غير المالكية.
فالمقصود بقول العلماء: (الخروج من الخلاف مستحب)، فعل الشيء أو تركه بحسب الفرع الفقهي بما لا يوقعه في حرام أو مكروه على كلا المذهبين المختلفين، بحيث إذا عرض الخارج من الخلاف ما فعل على الفقيهين المختلفين أفتيا بأن لا حرج في الفعل، ولا يتوقع عقاب، ومثاله التوضؤ من مس الفرج عند من لا يوجبه خروجاً من خلاف من أوجبه.
وعليه يمكن أن نقول في الفرق بين مراعاة الخلاف والخروج من الخلاف أن مراعاة الخلاف عموما لإيضاح المقصود هو على نوعين:
1- مراعاة جزئية: وهي اعتبار المذهب المخالف من وجه، وأخذ بمذهب نفسه من وجه آخر، وهذه هي مراعاة الخلاف المقصودة عند المالكية، ولا يعرفها الجمهور.
2- مراعاة كلية: وهي إهمال لمذهبه بالكلية، وعدول إلى مقتضى مذهب الآخر، وخروج إليه، وهذه هي قاعدة الخروج من الخلاف التي يذكرها عامة الفقهاء من مختلف المذاهب.
فتبين من هذا التصوير والتقريب الفرق بينهما، والله أعلم.
ومن المهمات في هذا الصدد ما أثاره الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله من إشكاليه الجمع بين العمل بالراجح وهو واجب أصالة2 وقاعدة مراعاة الخلاف حيث قال في مراسلته لابن عرفة رحمه الله: “الظاهر أن الدليل هو المتبع بحيث ما صار صير إليه، ومتى ما ترجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ولو بأدنى وجوه الترجيح وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول، فإذا رجوعه لقول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال لدليله الراجح عنده الواجب عليه اتباعه، وذلك على خلاف القواعد” المعيار المعرب 6/367.
وقد أجابه ابن عرفة رحمه الله قائلا: “أنا بينا أنه إعمال لدليله من وجه هو فيه أرجح، وإعمال دليل غيره فيما هو عنده أرجح..” المعيار المعرب 6/376.
كما يجب أن يعلم أن لمراعاة الخلاف جملة من الشروط المحددة لابد من اعتبارها وهي كالآتي3:
1. أن يكون الخلاف قويا 4.
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “..ولذلك راعى مالك رضي الله تعالى عنه الخلاف، قال: وتوهم بعض أصحابه أنه يراعي صورة الخلاف، وهو جهل أو عدم إنصاف.
وكيف هذا وهو لم يراع كل خلاف وإنما راعى خلافا لشدة قوته5” نقله عنه الزركشي رحمه الله في البحر المحيط 6/265.
وقال الحجوي الثعالبي رحمه الله: “واعلم أن مراعاة الخلاف ضابطه في المذهب المالكي إذا كان القول قوي الدليل راعاه الإمام.. وإذا كان ضعيف المدرك جدا لم يلتفت إليه” الفكر السامي 2/163.
2. ألا يخالف سنة ثابتة صريحة.
3. أن لا يؤدي إلى صورة تخالف الإجماع. انظر البيان والتحصيل لابن رشد المالكي رحمه الله 2/215.
4. ألا ينتج عن مراعاة الخلاف خلاف آخر.
5. أن لا يترك المراعي للخلاف مذهبه بالكلية.
أما هل رعي الخلاف يجب عل كل مجتهد من المالكية أم لا يجب؟
فعلى قولين، وقد أشار إلى ذلك الشيخ عليش المالكي رحمه الله بقوله: “مراعاة الخلاف وظيفة المجتهد لا المقلد6 كما توهمه بعضهم، وقال: مراعاة الخلاف وظيفة المجتهد كمالك رضي الله تعالى عنه” فتح العلي المالك 2/61-62.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن اعتبار مبدأ مراعاة الخلاف هو امتداد لأصل الاستحسان، لأن المجتهد يراعي دليل مخالفه في لازم مدلوله رفعا للضرر، ورعاية للمصلحة، وهما أساسان معتبران شرعا وفي ذلك قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة” الاعتصام 390.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. نكاح الشغار هو: أن يُنكح الرجل وليته رجلا آخر على أن يُنكحه الآخر وليته ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى. انظر بداية المجتهد 2/57، والكافي لابن عبد البر رحمه الله 2/532، والمدونة 2/139.
2. قال ابن جزي المالكي رحمه الله: “اتفق جمهور العلماء على القول بالترجيح بين الأدلة” تقريب الوصول 468.
3. انظر مراعاة الخلاف في المذهب المالكي ليحيى سعيدي ص: 115 فما بعدها.
4. وهذا هو الراجح والمعتمد، حيث أن البعض يُعبر عن هذا الشرط بقولهم: (أن يكون الخلاف مشهورا)، مع التنبه إلى وقوع الخلاف في هذا بين المالكية أنفسهم من جهتين:
أولهما : هل يراعى المشهور وحده، أم كل خلاف؟ انظر القواعد للمقري المالكي رحمه الله 1/236.
ثانيهما: الخلاف في مفهوم المشهور هل هو ما قوي دليله أم ما كثر قائله؟ وقد مر معنا إيضاح ذلك في هذه السلسلة فلينظر.
5. وهذا الشرط يؤكد ضابط ما ذكرناه أعلاه في نظم ابن أبي كف رحمه الله من أن مالكا رحمه الله كان يراعي الخلاف تارة، ويعدل عنه أخرى.
6. وليس المراد بالمقلد في كلامه: العامي صاحب التقليد الصرف فتنبه، وسبق في هذه السلسلة الإشارة إلى شيء من ذلك.