ليس كل ما في المذهب يجوز أن ينسب إلى إمام المذهب الإمام مالك رحمه الله أنموذجا الحلقة الأولى رشيد مومن الإدريسي

مما ينبغي أن ينتبه إليه أن كل مذهب يضم أقوال إمام المذهب واجتهاداته كما يضم جميع الأقوال والاجتهادات التي ذهب إليها علماء المذهب، وعليه فلا يصح أن تنسب كل هذه الأقوال إلى إمام المذهب على أنها أقواله التي يرتضيها، فهذا ليس عدلا ولا صوابا.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “..فإذا عرف أقول الإمام نفسه وسعه أن يخبر به ولا يحل له أن ينسب إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أوطالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نص لهم فيه، وكثير منه يخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينا أنه قوله ومذهبه” إعلام الموقعين 4/176.
فإن أي مذهب من المذاهب ومنها مذهب إمامنا مالك رحمه الله قد ضمن:

• أحكاما فقهية اجتهادية عن إمام المذهب بطريق: “الروايات” أو “الأقوال” أو “المنصوص” وما في ذلك من تقاسيم باعتبارات مقررة عند أهل الشأن.
يقول محمد الحطاب المالكي رحمه الله: “غالبا أن المراد بالروايات: أقوال مالك، وأن المراد بالأقوال: أقوال أصحابه ومن بعدهم من المتأخرين، كابن رشد والمازري ونحوهم، وقد يقع بخلاف ذلك” مواهب الجليل للحطاب 1/55، ومراده من الجملة الأخيرة أنه أحيانا يقصد بالأقوال قول مالك رحمه الله.
أما مصطلح المنصوص، فقد قال ابن فرحون المالكي رحمه الله نقلا عن الباجي رحمه الله في بيان معناه: “ويحتمل أن يكون من نص الشيء إذا رفعه، فكأنه مرفوع إلى الإمام أو أحد من أصحابه.. ومن قاعدته (أي : ابن الحاجب) أن يطلق المنصوص على ما هو منصوص للمتقدمين..، وقد يطلق على ما ليس فيه نص للمتقدمين، بل يكون من قول المتأخرين” كشف النقاب لابن فرحون رحمه الله 99-100.

• أحكاما فقهية اجتهادية، من عمل الأصحاب تخريجا على المذهب، وهي: “التخريجات”، مع العلم أن هذه التخاريج وقع فيها الاختلاف بين الأصحاب، فهذا يخرج الحكم بالجواز، وآخر يخرجه بالكراهة.. وهكذا دواليك، ولا يلزم أن إمام المذهب قد ارتضى هذا التخريج ولو كان قولا واحدا بله أن تكون الأقوال مختلفة في الحكم الواحد.
يقول ابن فرحون المالكي رحمه الله عن ماهية التخريج في المذهب: “هو عبارة عما تدل أصول المذهب على وجوده ولم ينصوا عليه فتارة يخرج من المشهور، وتارة من الشاذ” كشف النقاب 99، وهو لا يصح بعد مراعاة ضوابطه إلا ممن هو متمكن “من النظر في أصول إمامه بالتخريج لغير المنصوص على المنصوص لإمامه” كما قال الشيخ محمد يحيى الولاتي كما في نيل السول على مرتقى الوصول 348.

• أحكاما فقهية اجتهادية من عمل الأصحاب من باب اجتهاداتهم في استنباط الأحكام دون الارتباط بالتخريج على المذهب.
وهذا النوع من الأحكام “موجود في كل مذهب، يدرجها الفقيه في كتاب المذهب بحكم ما يرد في عصره من واقعات، قد لا يجد لها تخريجا في المذهب، فيجتهد في استنباط الحكم من أصول الشريعة، أو مقايسته بما هو أشبه به من فروع الشريعة، فيدرجه في مؤلفه من كتب ذلك المذهب.
ومنه ما يكون غلطا مضاعفا، إذ يغلط المستفيد فيلحقه بالمذهب رواية، أو تخريجا، ويغلط المستنبط فلا يصح له ما استنبطه” المدخل المفصل للشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله 1/49.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها ويضيف ذلك إلى الأئمة وهم لا يقولون به، فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتى ويحكم به، والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نص على خلافه ” الطرق الحكمية 335-336.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنه قد يقال: المذهب المالكي في هذه المسألة كذا، ولا يريد القائل أن مالكا رحمه الله قال ذلك وأفتى به، وإنما يريد أن هذا الحكم هو المعتمد في الفتوى عند المالكية، وهذه مسألة اصطلاحية فتنبه.
فالمعتمد عند السادة المالكية رحمهم الله هو: “القوي سواء كانت قوته لرجحانه أو لشهرته” بلغة السالك لأقرب المسالك لأحمد الصاوي 1/15.
وعليه فالمعتمد في المذهب قد يكون قولا للإمام نص عليه، وقد لا يكون نص عليه، وإنما اعتمد قياسا على قوله، أو أخذ من إشارته أو إيمائه، وقد يكون قولا لصاحب أو تلميذ من أصحاب إمام المذهب أو تلامذته، أو قاله أحد علماء مذهبه أو جمع منهم، وقد يكون ما قاله غيره من أصحابه أو تلامذته أو علماء مذهبه مخالفا لما نص عليه، وقد لا يؤثر عن الإمام في ذلك قول أو حكم.
فيصح إذن اصطلاحا أن يقال: المذهب المالكي هو عبارة عما أصله الإمام مالك من أصول مجتهدا في اعتمادها، وما درج عليه أصحابه ومتبعوه ولو خالفوه في بعض الفروع المبنية على تلك الأصول، إذ الاعتبار أن يدور اجتهادهم مقيدا بأصول الإمام مالك رحمه الله. انظر المحاضرات المغربيات 75.

وللبحث بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *