قال الإمام مالك رحمه الله: “لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، انطلاقا من هذه القاعدة الذهبية الغالية سعى المصلحون قادة وعلماء إلى تثبيت ما صلح به الأوائل -وهو الوحي كتابا وسنة- في نفوس الناس، ودعوتهم إلى تمثله في جميع مجالات حياتهم، فشهد التاريخ أن أمة الإسلام لما أن كان الوحي قائدها، كانت السيادة والريادة والعز والمنعة حليفها. والعكس بالعكس.
من روادنا المصلحين في هذه الحلقة الإمام العلم عبد الله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم، العالم الأثري، الفاسي نزيل طنجة، له تلاميذ كثر من أبرزهم عبد الله كنون وعبد الحفيظ الفاسي. توفي رحمه الله سنة (1350 هـ).
قال عنه محمد السائح: “وكان أثريا سلفيا.. فصدع بوجوب إصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية.” (مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م، ص:39).
قال عبد الحفيظ الفاسي: “ولما وفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى قربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية؛ فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد.. وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته؛ فنشره في كافة أنحاء المغرب، وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ أوائل هذا القرن إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالى .. هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب، وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به، وتأييده بالأدلة الصحيحة وسيزداد اليوم ظهورا.” (الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات (ص.301-302).
قال عبد لله كنون: “فهذا الرجل كان قد وصل إلى المشرق وجال في أقطاره وأخذ من أعلامه، وعاد جبلا راسخا في العلم بالسنة والتمكن من المذهب السلفي، ونبذ التقليد، والجهر بالدعوة إلى توحيد الألوهية، ومحاربة البدع والضلالات والطرقية، والتعلق بالقبور والأموات.” ثم قال: “ولم يفتأ ينشر الدعوة إلى السنة ويندد بالجمود والابتداع”. (مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8)).
ومما لا شك فيه أن أي دعوة إصلاحية صافية رقراقة لا بد أن تجد مناوئين لها من أهل الخرافة أو الجمود والتقليد، بل وأفاكين ملفقين لتهم جاهزة يرمون بها المخالف لهم؛ وذلك لضعف حجتهم، وتهاوي دعاويهم. وهذا ما حصل لهذا العالم المصلح.
قال عبد الحفيظ الفاسي: “فقام بينه وبين أولئك العلماء خلاف كبير من أجل ذلك، وتناظروا في مجلس السلطان، ولمزوه بالاعتزال والتمذهب بعقائد أهل البدع والأهواء وإنكار الولاية والكرامات، وألف فيه بعضهم المؤلفات المحشوة بالسب والسخافات، الخارجة عن الأدب، مع لمزه بنزعة الاعتزال، ونقل ما قال الناس في المعتزلة والخوارج، وما طعنوا به من الأقوال البعيدة عن الإنصاف في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى”. رياض الجنة (2/84-85).
وقال أيضا: “ولازمته مدة إقامته بفاس، وتمكنت الرابطة بيني وبينه، وأدركت عنده منزلة عظيمة.. بسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء؛ فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء، وبريئا من كل ما نسب إليه؛ بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره ولا اختص به من دون سائر الناس؛ بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأيمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين.” رياض الجنة (2/84-85).