تنوير الحوالك ببيان أصول مذهب مالك المصالح المرسلة عند المالكية رشيد مومن الإدريسي

من الأصول التي بنى عليها الإمام مالك رحمه الله مذهبه ما يسمى بـ”المصالح المرسلة”1. 

قال ابن أبي كف أحمد المحجوبي الشنقيطي في نظمه ناصا على ذلك:
وبالمصالح عنيت المرسله له احتجاج حفظته النقلة
قال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “المصلحة المرسلة والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار على ثلاثة أقسام:
ما شهد الشرع باعتباره…
وما شهد الشرع بعدم اعتباره…
وما لم يشهد له باعتبار ولا بإلغاء وهو المصلحة المرسلة وهي عند مالك رحمه الله حجة2” شرح تنقيح الفصول 446.
وفي تاج العروس 2/183: “الصلاح ضد الفساد ورأي الإمام المصلح في كذا والمصلحة واحدة المصالح أي الصلح؛ ونظر في مصالح الناس وهو من أهل المصالح لا المفاسد واستصلح نقيض استفسد”.
وسميت بالمرسلة لأنها مطلقة من الاعتبار والإلغاء، أي: لم يرد عن الشارع أمر بجلبها ولا نهي عنها، بل سكت عنها.
وقد ا تفق العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات والمقدرات، كالحدود والكفارات وفروض الإرث، وكل ما شرع محددا واستأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به، أما أحكام العبادات فلأنها تعبدية وليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة الجزئية لكل منها، وأما أحكام المقدرات فلأنها مثل أحكام العبادات، حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به.
وما عدا هذه الأمور المذكورة يأتي حكم المصالح المرسلة وقد عُرفت بأنها: “التي لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس، مع ملائمتها3 لتصرفات الشارع ومقاصده” أصول الفقه الإسلامي للزحيلي 2/757.
وقال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته الأمة بالقبول” الاعتصام 2/111.
وهذا النوع من المصالح معتد به في حقيقته ضمن مقاصد الشريعة، ولذا جمهور العلماء قد اعتبروا حجيتها.
قال الشيخ عبد الوهاب خلاف: “ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع أو قياس أو استحسان يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتباره، فجعل المصلحة على إطلاقها مذهب جمهور الفقهاء” علم أصول الفقه 93.
وقد نُسب إلى الشافعية والحنفية إنكار الاحتجاج بالمصالح المرسلة، مع أن الناظر في كتبهم واجتهاداتهم يجدها قائمة في كثير منها على الاعتماد عليها كما نص عليه الإمام القرافي المالكي رحمه الله حيث قال: “وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب” شرح تنقيح الفصول 446.
وقال الشيخ محمد فرج سليم: “التحقيق أنه لا فارق بين الشافعي ومالك وإمام الحرمين ومعظم أصحاب أبي حنيفة وأنهم يرون أن اتباع المصلحة المرسلة الملائمة لتصرفات الشريعة جائز” المصالح المرسلة والاستصحاب 75.
والناظر في صنيع الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح يجدهم على الاحتجاج بالمصلحة المرسلة كما عليه الإمام مالك رحمه الله وغيره؛ حيث كانوا يبنون الكثير من الأحكام عليها من غير إنكار على واحد منهم في ذلك، فكان إجماعهم العملي من دلائل الاعتداد بالمصالح المرسلة في تشريع الأحكام.
قال الإمام القرافي المالكي رحمه الله: “ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهدا بالاعتبار، نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظر، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، وترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، وغير ذلك مما عملوه لمطلق المصلحة” كتاب التقرير والتحبير 3/381.
وقال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول، وإن كان فيها خلاف بينهم، ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه” الاعتصام 1/185.
وليعلم أنه اشترط للعمل بالمصلحة المرسلة بعض الشروط وجماعها 4:
أولا: أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.
الثاني: أن تكون معقولة في ذاتها، تتلقاها العقول بالقبول إذا عرضت عليها.
الثالث: أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين.
ومن المهمات في هذا الباب معرفة أن باب الاستصلاح يحتاج: “إلى مزيد الاحتياط في توخي المصلحة، وشدة الحذر من غلبة الأهواء، لأن الأهواء كثيرا ما تزين المفسدة فتُرى مصلحة، وكثيرا ما يُغتر بما ضرره أكبر من نفعه” مصادر التشريع الإسلامي لخلاف 85.
يقول الشيخ عمر الفاسي في رسالة الوقف: “وأنّى للمقلد أن يدعي غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها، ولا ما يشهد بإلغائها، مع أنه لا بحث له في الأدلة ، ولا نظر له فيها، وهل هذا إلا اجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين” نقله عنه العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله في رسائل الإصلاح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1. هذا هو الاسم الشائع لهذا النوع من المصالح، وهي تسمية المالكية كما في مواهب الجليل 5/430، وعبر عن ذلك بعض علماء الأصول بالمناسب المرسل الملائم، وسماها بعضهم بالاستدلال المرسل. انظر أصول الفقه الاسلامي للزحيلي 2/754، وأطلق عليها اسم الاستدلال. انظر إرشاد الفحول 262، ويسميها الحنابلة والغزالي رحمه الله بالاستصلاح. انظر روضة الناظر 411، والمستصفى 1/315.

2. شنع بعضهم على الإمام مالك رحمه الله في خصوص الأخذ بالمصلحة من جهة توسعه في ذلك كما رأوا ومنهم الجويني رحمه الله حيث قال: “وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال حتى جره إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستندا” إرشاد الفحول 403، وانظر البرهان للجويني 2/721.
وقد أنكر بعض علماء المالكية ما نُسب إلى الإمام مالك من القول بها على ذلك الوجه، منهم: الإمام القرطبي رحمه الله حيث قال كما نقله عنه صاحب إرشاد الفحول 403: “وقد ذهب الشافعية ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتداد عليها، وهو مذهب مالك، قد اجترأ عليه إمام الحرمين الجويني وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه”.
والظاهر أن الإمام القرطبي رحمه الله قد جازف أيضا في قوله بعدم اعتداد الإمام بها، فإن الإمام مالك رحمه الله أخذ بالمصلحة في مسائل، كما أن الإمام الجويني رحمه الله بالغ في مقاله، وقد بين ذلك الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله حيث قال: “الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل ولا يكاد يخلوا غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما” نقلا عن إرشاد الفحول 403.
وفي الجملة فأخذ الإمام مالك رحمه الله بالمصلحة ثابت لكن كما قال الإمام السبكي رحمه الله: “إن الذي صح عن مالك اعتبار جنس المصالح مطلقا” تيسير التحرير 3/314.
3. وهذا القيد مهم جدا غفل عنه الكثير ممن يتكلم في هذا الباب وحقيقته أن يكون للمصلحة المرسلة في الشرع نظير من جنسها، وأما إذا لم تكن كذلك -وإن لم يعتبرها الشرع ولم يلغها- فهي مصلحة غريبة مردودة بالاتفاق. انظر نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي 17 لحسين حامد حسان.
4. انظر تفصيل ذلك الاعتصام للشاطبي رحمه الله 2/ 129 فما يليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *