لكي يسلم القياس من المفسدات لا بد من مراعاة شروطه وهي ثمانية1 منها ما يشترط في الأصل والفرع:
– الأول: أن يكون حكم الأصل شرعيا.
– الثاني: أن يثبت بدليل شرعي2.
– الثالث: أن يكون ثابتا غير منسوخ3.
– الرابع: أن يكون متفقا عليه عند جميع العلماء أو عند الخصمين.
– الخامس: أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر، وفي هذا خلاف4.
– السادس: أن لا يخرج الأصل عن باب القياس كالتعبدات من عدد ركعات الصلاة ومقادير الحدود وشبه ذلك، وما اختص به النبي عليه الصلاة والسلام من الأحكام.
– السابع: أن يكون الوصف الجامع موجودا في الفرع كما هو في الأصل.
– الثامن: أن لا يكون الفرع منصوصا فإن القياس لا يعتبر مع وجود النص أو مخالفة الإجماع.
وقد نظم عموم هذه الشروط ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول 675 مع شرحه حيث قال:
والشرط في الأصل بحيث ياتي خروجه عن التعبدات
ومثله ما اختص بالرسول فذا وذا ليس من المعقول
والخلف أن يكون فرع أصل والشرط في الفرع اتباع الأصل
في وصفه الجامع ثم لا يرى وحكمه بالنص قد تقررا
وشرط حكم الأصل أن يتفقا عليه مع خصم به أو مطلقا
لم ينتسخ قد انتمى للشرع مع الثبوت عن دليل شرعي
وليعلم أن العلة أهم أركان القياس، لأنها هي التي تحدد عملية القياس، وتجمع بين الأصل والفرع، ولذلك قال الفقهاء: إن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
وتثبت العلة بجملة من المسالك معروفة عند أهل الصنعة وهي كما ذكرها ابن جزي المالكي رحمه الله في تقريب الوصول ص:141 فما بعدها كالآتي:
الأول: النص كقوله عليه الصلاة والسلام: “إنما جعل الإذن من أجل البصر” صحيح الجامع.
الثاني: الإيماء، ومنه الإيماء بالفاء كما في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما).
الثالث: ترتيب الحكم على الوصف كقوله عليه الصلاة والسلام: “القاتل لا يرث” صحيح ابن ماجة، ومعناه: لأجل قتله.
الرابع: الإجماع على العلة.
الخامس: دوران الحكم مع الوصف، وهو وجوده مع وجوده، وعدمه مع عدمه كالرجم مع الإحصان.
السادس: السبر والتقسيم، وهو أن يقال لا يخلو أن تكون علة كذا وكذا ويبطل أن تكون كذا، فيتعين أن يكون كذا.
السابع: تقسيم المناط5: وهو تعيين العلة من بين أوصاف مذكورة كما ورد في الحديث: “أن أعرابيا جاء يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وأهلكت واقعت أهلي في رمضان” متفق عليه، فهذه جملة أوصاف تعين أن أمره بالكفارة إنما كان للجماع في رمضان لا لغيره من الأوصاف المذكورة.
وينقسم القياس إلى أربعة أقسام وهي:
أولها: وهو أعلاها قوة ما يسمى بالقياس مع نفي الفارق، وهو الذي المسكوت عنه حل مثلا للمنطوق أو أعلى، ويطلق عليه كذلك اسم القياس الجلي.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله مقررا إياه في المرتقى 678 مع شرحه:
أعلاه ما المسكوت عنه حلا مِثلاً لمنطوق به أو أعلى
كالعبد والأمة في الإعتاق والضرب والتأفيف في الإلحاق
ثانيها: وهو يلي الأول في القوة والمسمى بقياس العلة6 وحده: ما ثبت حكم المقيس فيه مع الوصف الجامع بينه وبين الأصل كتحريم بيع الخمر لأجل تحريم شربها، حملا على تحريم بيع الشحوم لأجل تحريم أكلها، والوصف الجامع: تحريم الانتفاع بهما، وقد قال فيه ابن عاصم المالكي في المرتقى 679 مع شرحه:
ثم يلي ذو علة وهو الذي من وصفه الجامع حكمه احتذي
كمنع بيع الخمر للتحريم حملا على محرم الشحوم
ثالثها: وهو بعد قياس العلة ويسمى بقياس المناسبة وهو المبني على تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة7.
رابعها: وهو يلي قياس العلة وقياس المناسبة في القوة والمسمى بقياس الشبه8 وقد قال به الإمام مالك رحمه الله كغيره من العلماء، ومعناه: القياس الذي يكون الوصف فيه ليس بعلة بنفسه بل يستلزم العلة المناسبة للحكم. فلذلك بان ضعفه عن قياس العلة وقياس المناسبة.
قال ابن عاصم المالكي رحمه الله في تقرير هذين النوعين الأخيرين كما في المرتقى 680-681 مع شرحه:
وبعده المنسوب للمناسبة وسوف يستوفى بحيث ناسبه
ثم يليهما قياس الشبه ومالك كغيره قال به
وهو الذي يكون فيه وصفه ليس بعلة فبان ضعفه
وهو تشبيه الأرز مثلا بالبر في وصف عليه اشتملا
بشرط أن يكون ذا اعتبار كالطعم والقوت والادخار
والقياس “لا يجري في الرخص ولا الأسباب ولا الشروط ولا الموانع.
أما الرخص فلأنها لا يعقل معناها، ولأنها مخالفة للدليل، والقياس عليها يؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب أنه لا يجوز.
وأما الأسباب والشروط والموانع فلأن القياس عليها يستلزم نفي السببية والشرطية والمانعية من خصوص المقيس والمقيس عليه، إذ يجعل السبب أو الشرط أو المانع، هو المعنى المشترك بين المقيس والمقيس عليه.
وما سوى ما ذكر من الأحكام الشرعية يجري فيه القياس اتفاقا” إيصال السالك في أصول الإمام مالك 44-45.
وإطلاق أن القياس “مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله إذا تعارض معه لأن الخبر متضمن للحكم فقط، والقياس متضمن للحكم والحكمة، أي: العلة”9 محل نظر لاعتبارات وهي:
أولا: أن هذا المذهب المنسوب لمالك رحمه الله هو رواية العراقيين من الأصحاب فحسب، وقد حكاه ابن القصار عن مالك، ونص الباجي رحمه الله على أنه قول أكثر الأصحاب، وحكاه أبو العباس القرطبي في المفهم على أنه قول مالك في العتبية، ورجحه الإمام القرافي في التنقيح.
ثانيا: رواية المدنيين من الأصحاب على خلاف ذلك فهم يروون عن مالك تقديم الخبر على القياس وهو الذي ارتضاه الباجي في المنتقى، والرهوني في تحفة المسؤول، وقوى القاضي عياض أنه مشهور المذهب، وصحح هذه الرواية أبو العباس القرطبي في المفهم وكذا العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث قال:” والرواية الصحيحة عن مالك رواية المدنيين أن خبر الواحد مقدم على القياس، وقال القاضي عياض مشهور مذهبه أن الخبر مقدم قاله المقَري وهو رواية المدنيين، ومسائل مذهبه تدل على ذلك ” نثر الورود 2/443.
وعلى القول بصحة الرواية الأولى فتحمل على القياس بمعنى القاعدة والأصل الكلي 10، وهو الذي دلت عليه عمومات نصوص الكتاب والسنة وشهد له كثير من الأدلة والفروع، حتى أصبح أصلا تعرض عليه المسائل والجزئيات، وقد استعمل بعض المالكية القياس بهذا المعنى كالمازري وابن رشد وأبو العباس القرطبي في آخرين، فتصير صورة المسألة على هذا الطرح تعارض كلي من الكليات مع نص في مسألة شرعية؛ فلا شك عند ذلك في تقديم الكلي، وعليه فقد تكون دلالة الحديث لم تظهر للناظر فيعرض له التعارض في ذهنه والأمر على خلاف ذلك، أو يكون الحديث غير ثابت على مقتضى الصنعة الحديثية فتأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. انظر تقريب الوصول لابن جزي المالكي رحمه الله ص: 136 تحقيق د.فركوس، وكذا مفتاح الوصول للتلمساني رحمه الله 654 فما بعدها؛ تحقيق د.فركوس.
2. قال التلمساني المالكي رحمه الله: “فإنه إن لم يكن ثابتا لم يتوجه القياس عليه، لأن المقصود ثبوت الحكم في الفرع، وثبوت الحكم في الفرع فرع عن ثبوته في الأصل ” مفتاح الوصول 654 تحقيق د.فركوس.
3. وهذا الشرط هو المعبر عنه بقولهم: “أن يكون الأصل مستمرا في الحكم” مفتاح الوصول 655- تحقيق د.فركوس.
4. وهذه المسألة مترجمة عند الأصوليين بـ”منع القياس” على ما ثبت حكمه بالقياس وهو قول الجمهور خلافا لبعض الحنابلة وجمهور المالكية، حتى قال التلمساني المالكي رحمه الله: “بل يجوز عندنا القياس على أصل ثبت حكمه بالقياس على أصل آخر” مفتاح الوصول 669 تحقيق د.فركوس، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، انظر المقدمات الممهدات لابن رشد المالكي رحمه الله 1/38، وذهب بعض الأصوليين من المالكية إلى اشتراطه ومنهم ابن جزي رحمه الله.
5. المراد بتقسيم المناط في كلام ابن جزي رحمه الله ما يطلق عليه: تنقيح المناط.
6. وهو الأشهر في القياس والمراد أصالة من التعريف فتنبه.
7. قال ابن جزي رحمه الله عند تقريره للمصلحة التي شهد الشرع باعتبارها: “وهي قياس المناسبة المبني على النظر المصلحي من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فهذا حجة عند جميع القائلين بالقياس” تقريب الوصول 148 تحقيق د.فركوس بتصرف يسير.
8. ويسمى كذلك بقياس الدلالة، لأن الجامع بين الأصل والفرع دليل العلة وليس العلة.
9. كما قال الولاتي في إيصال السالك في أصول الإمام مالك ص: 44.
10. لأنه لا يتصور في حق الإمام مالك رحمه الله تقديم القياس الذي هو نظر واجتهاد على الخبر، فإما نخرج رواية تقديم القياس على الخبر بما ذكرناه، أو نحكم أصالة بعدم صحتها، ولذا نفى السمعاني رحمه الله أن يكون مذهب الإمام مالك رحمه الله تقديم القياس على خبر الواحد، وقال بعد عزو هذا المذهب لمالك: “وهذا القول باطل سمج مستقبح وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول” انظر كشف الأسرار للبزدوي رحمه الله 2/551.