السلفية والحداثة حمّاد القباج

يظن بعض المغاربة أن المشروع الحداثي الذي انخرط فيه بلدنا لا يتم إلا بالتنكر للهوية واحتقار التراث وقطع الصلة بالماضي، بل هدمه بالكلية اتباعا لفلسفة (نيتشه)، من أجل بناء حضارة جديدة بلبنات غربية ورمال علمانية تغوص بنا في مستنقعات التبعية المذلة للغرب.

ويجمع أصحاب هذا التوجه على وصف كل رجوع بالرجعية ولو كان رجوعا محمودا مدحه إمام الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم حين قال: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” [صحيح أبي داود].
وسبب تفشي هذا الظن الخاطئ جنوح سدنة العلمانية بلفظ الحداثة من معناه الذي اصطلح عليه مصلحو الأمة بقيادة عاهل البلاد، إلى معناه الاصطلاحي في مجال الفكر والأدب؛ وذلك أن ملك البلاد سدده الله وضح في العديد من كلماته أن المغرب بلد الإسلام الذي لا يبغي به بديلا، وأن أي مشروع إصلاحي أو تنموي ينبغي أن يكون تحت هذه المظلة، وهذا توضيح يؤكد أننا لا نريد من معاني الحداثة إلا جانبها المادي الذي يرتبط بمفهوم التحديث والتطوير..
إن لفظ الحداثة ظهر في مجال ما يسمى بالأدب المعاصر، حيث أطلق على موجة التجديد الأخيرة التي عرفها المجال الأدبي، والتي اخترقت كل القواعد اللغوية والحدود الشرعية، إلى حد أن جهرت بالكفر الصريح، والتمرد القبيح على الدين وعلى مُنزله سبحانه وتعالى(1).
وهناك من أطلق لفظ الحداثة على حركة (التنوير) التي ظهرت مع النهضة العلمية في أوروبا، وأعلنت رفضها لمعتقدات القرون الوسطى، وقدست العقل بصفته آلة التقدم والتنوير، وفي هذا السياق وصلت الحداثة إلى ما وصلت إليه في المجال الأدبي من التمرد على الله؛ بجحوده وهو الإلحاد، أو جحود شريعته وهي العلمانية.
إشكالية الحداثة والتقدم:
لبس تيار الحداثة زي التقدم، ومدحه مدحا مطلقا، في مقابل الذم المطلق لكل ما هو رجوع إلى الوراء.
وهذا الإطلاق فيه ما فيه من الزلل والخطأ؛ فإن “التقدم -بالتحليل اللغوي والمنطقي- هو كلمة عامة غير محددة الاتجاه، فهي تصلح للتقدم في كل اتجاه.
وأما قيمة التقدم فتكشفها غاية مسيرته، فإن كانت الغاية سعادة وخيرا، كان التقدم فضيلة وعقلا، وإن كانت الغاية شقاء وشرا، كان التقدم رذيلة وحماقة وجهلا، وإن كان التقدم إلى ما لا فائدة فيه ولا مضرة، كان التقدم جهدا ضائعا، يخسر فيه المتقدم عمرا وطاقة، والعمر والطاقة هما رأس مال الإنسان في حياته.
وهكذا يُقَوَّم التقدم بغاية المسيرة فيه، فليس له لون واحد ثابت يقوم به، إنه مثل إناء الزجاج الصافي الشفاف، الذي لا لون له، فهو يتلون بلون ما يوضع فيه.
الحداثة والرجعية
ونظير كلمة (التقدم)، كلمة (الرجعية)؛ فقد استغل المضللون فيها معنى أوليا ساذجا، ينفر الساذج منه لأول وهلة، فهو يكره بأن يتهم بأنه يرجع إلى الوراء، ويغفل عن سبر احتمالات الرجوع وتقويم كل منها بقيمته الحقيقية، التي تعتمد على موازين الحق والخير والفضيلة والجمال.
فالرجوع تقدر قيمته بحسب غاية مسيرته وحركته، فإذا كانت الغاية سعادة وخيرا، كان الرجوع فضيلة وعقلا، وإذا كانت الغاية شقاء وشرا، كان الرجوع رذيلة وحماقة وجهلا، وإذا كان الرجوع إلى ما لا فائدة فيه ولا مضرة، كان الرجوع جهدا ضائعا.
وهكذا فإن الرجوع عن الباطل إلى الحق من أكبر الفضائل وأكثرها تعبيرا عن خلق الإنسان الرفيع.
والرجوع إلى صراط الهدى بعد تنكبه والانحراف عنه من فضائل السلوك المثالي، وهو من التوبة التي تعيد الإنسان إلى الصحة بعد المرض، وإذا كان كل بني آدم خطاء، فإن خير الخطائين التوابون، وهم الرجاعون إلى الطاعة والاستقامة بعد الانحراف والمعصية، كما جاء في الحديث الصحيح: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومن فقد عزة أو مكانة اجتماعية أو مالا أو شيئا حبيبا عنده، فمن سعادته أن يرجع ذلك إليه.
ومن تراجع ليتفادى خطرا مقبلا عليه فنجا، كان تراجعه من كمال عقله وحكمته.
ومن ارتد عن دينه الحق فمن عقله وحكمته وسعادته أن يرجع إليه، ولا يتمادى في غيه.
إن التضليل في شعار الرجعية التي يتهم بها الحداثيون السلفية، آت من التعميم الباطل الفاسد، الذي يزحف بالكلمة من المساحة التي تكون فيها ذميمة إلى المساحة التي تكون فيها حميدة، وتكون فيها هي الفضيلة وهي الحق والخير والكمال.
فليس كل تقدم محمودا، ولا كل رجوع مذموما، ومن ذلك الرجوع الذي تدعو إليه السلفية.
وكيف يكون مذموما، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأناط به عز الأمة وزوال ذلها، كما تقدم؟!
وقد اجتمعت النصوص وإيحاءات الواقع للدلالة على أن خير من عمل بهذا الدين ومارسه؛ هم السلف الصالح، وأن فهمهم لشريعته ومقاصده هو الفهم الصحيح؛ فالرجوع إلى ذلك أمر محمود.
السلفية والتقدم
وبعد هذا أقول: إن السلفية لا تمثل عائقا أمام أي تقدم نافع مثمر للخير ومعين على تحقيق وسائل العيش الكريم، في كل المجالات.
وهذا ما يشكل فهمه على الكثيرين؛ وهو علاقة السلفية بأبرز سمات العصر الحديث؛ وهو التطور الهائل في مجال البحث العلمي المادي، وما ترتب على ذلك من تطور عملي كبير في تسخير المادة لخدمة الإنسان:
فأقول: إننا لا نجد في أحكام الإسلام -وبالتالي في السلفية- ما يمنع من السعي في بلوغ أعلى الدرجات في ذلك، بل ظواهر النصوص تؤيده، وتدل على إباحته أو استحبابه:
قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة:29].
وعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن كان أمر دنياكم فشأنكم”. رواه أحمد (5/298) بسند صحيح؛ انظر: السلسلة الصحيحة (2225).
وكل ما توصل إليه الإنسان من تقدم وتطور؛ فالأصل فيه الإباحة، فإذا اشتمل على ما يؤدي إلى فساد أو ضرر فهو منهي عنه.
فالسلفية بهذا تضبط التطور الحاصل في الماديات وتوجهه، وتجعله في صالح البشرية.
ومعلوم أن السلفية تدعو إلى التحرر من أغلال الجمود والتقليد، وتدعو لنزع جبة الخرافات والخزعبلات، ومتى صفا دين المرء من ذلك كله، وكان في تدينه مستنيرا بالكتاب العزيز والسنة المشرفة؛ كان على طريق العلم والاستفادة من المعارف السليمة النافعة(2)..
ومن هنا فإن “إجمال عناصر الوعي السلفي وتحديدها يجعلنا نعتبر السلفية مفهوما حضاريا مستمرا، يؤكد دعاته على الرجوع إلى الأصول الإسلامية، باعتبارها المنقذ من الضلال، وهذه الدعوة لا تتوقف عند الماضي فقط، ولكنها تتوق إلى العودة باعتبارها تحفظ الرصيد الثقافي والتراث الإسلامي القادر على مواجهة مقتضيات العصر، والمساعد على تحقيق الإصلاحات الكفيلة بالتطور والتقدم” عبد الهادي بوطالب: السلفية استشراف مستقبلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- كما يدل على ذلك ما تفوه به اللبناني جبران خليل جبران القائد الأول للمذهب الحداثي (م. 1349/1920)، والعراقي معروف الرصافي الذي اعتبره أدونيس طليعة الحداثيين (م. 1364/ 1935)، والمصري توفيق الحكيم أبرز دعاة الاستغراب بعد طه حسين (م. 1407/1987)، والسوري نزار قباني الملقب بشاعر الحداثة وشاعر المرأة (م. 1419/1998)، والسوري أحمد أدونيس صاحب كتاب (الثابت والمتحول) الذي يعد تلمود الحداثيين.. إلـخ.، وهؤلاء -وأمثالهم- معروفون بإلحادهم وحقدهم العميق على الدين وبغضهم الشديد لكل ما يصدر عنه، ومع ذلك جعلت كثير من كتاباتهم الشعرية والنثرية من مقررات الدراسة النظامية في جل البلاد العربية بما فيها بلدنا المغرب، ويعلم الله كم ضاع من أوقاتنا في دراسة كتاباتهم الطافحة بالزندقة والمجون والفسق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- لو أن المعتزلة سخروا عقولهم في المجال المعرفي المادي، بدل إعماله في العقيدة الإسلامية والمسلمات الشرعية؛ لربما وصلوا إلى ما وصلت إليه الحركة العلمية في أوروبا في عهد نهضتها، ولربما سبقوا إلى اكتشاف الطاقة التي هي أساس التطور التكنولوجي، ولكنهم زلوا زلة خطيرة وخيمة النتائج؛ حيث حرفوا جزءا من الدين، ولم ينفعوا في أمور الدنيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *