كيف هجرت الأمة القرآن؟!

“يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدا، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً”. (المنصر تاكلي)
“مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان” (جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق).

لقد اعتنى الرعيل الأول بحفظ كتاب الله تعالى، فكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه)، وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده وتماسك مجتمعه، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: “كان خلقه القرآن”. (صحيح الجامع 4811).
قال المناوي في فيض القدير: “أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، إلى غير ذلك”، وقال القاضي عياض: “أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن، فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه”. اهـ، وقال في الديباج: “معناه العمل به، والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته”.
وروى مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أمَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين”. (مسلم)، قال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: “قال عمر: تقريرا لاستحقاقه الاستخلاف، وقوله “بهذا الكتاب”: أي بقراءته، أي بالعمل به..، “ويضع به”: أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
ابتداء هجر كتاب الله
ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم، هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ، أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَفََلا تَعْقِلُونَ” (الأعراف)، “فحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها، فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنَّوْا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى، وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم”. (تفسير الشيخ أبي بكر الجزائري).
قال القرطبي في تفسيره: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: “سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا”.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به، وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
الاحتلال الصليبي ومحاربة القرآن
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بأبشع مظاهر القسوة مع الأمة المسلمة، وحاول إجبارها على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار، وبسبب اتباع هذا المنهج السافر، لم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أن الأمة كان قد استشرت فيها البدع والمحدثات ومظاهر الشرك -ممَّا كان له الأثر الكبير في تكالب الأعداء علينا- إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا القطيعة بينها وبين دينها.
لقد كان تعامل الاحتلال رغم تنوع دوله مع المسلمين بالطريقة نفسها، فكان الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين أكثر دهاء ومكرا حيث لم يتوانوا في زحزحة الأمة عن دينها.
فهذا “جلادستون” رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقف في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: “مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان”، ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: “إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم”.
وسار المنصرون الغاشمون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط، يقول المنصر “وليم جيفورد بالكراف” في كتاب جذور البلاء: “متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدا عن محمد وكتابه”، ويقول المنصر “تاكلي” في كتاب التبشير والاستعمار: “يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدا، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً”. ويقول المنصر “تاكلي” ذاته، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: “يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية”.
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور، فتم إلغاء وتحديد عدد الكتاتيب للحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس، وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء التي تراكمت عبر الزمن وليس إلغاءها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على القرويين وغيرها -كمؤسسة دينية- قائما مع إضعاف مكانتها وزعزعة ثقة الناس فيها بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الجامعات والمعاهد الإسلامية (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!!
ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهلا دينيا، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن قلَّ قدره في نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم، وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا.. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون عالم دين أو دارس فقه أو حامل للقرآن أو واعظا.
وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى بل شوهت الشخصية الإسلامية وذلك لتحل محلها الشخصية العلمانية المظهرية الجوفاء.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحيل على ذكريات المجد والسؤدد، تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه -إلا من رحم الله وقليل ما هم- وتنتشر من حوله الخرافات، وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في المآثم والعزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!
هذا إضافة إلى عوامل أخرى كـ:
– تبديل الأحكام الشرعية بالقوانين الوضعية العلمانية المستوردة من فرنسا وسويسرا وجعلها مرجعية للتحاكم والقضاء.
– تهميش التعليم الأصيل مقابل تشجيع المدارس العلمانية ذات التعليم المستغرب الذي لا يحفل بقيم الإسلام وتعاليمه.
– السماح بغزو القيم الغربية للمجتمع الإسلامي كغض الطرف عن الاختلاط في المدارس والأماكن العمومية، والسفور، والدعارة، والخمور إنتاجا وبيعا واستهلاكا.
وعوامل أخرى يطول المقال بذكرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *