حقيقة الإسلام الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله؛ فالإسلام خضوع وتذلل واستسلام وعبودية لرب الأرضين والسماوات، قال تعالى: “أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ “(آل عمران83).
فإذا كان الإسلام هو العبودية لله فإن من المعلوم عند الخاص والعام أن العبودية والحرية المطلقة نقيضان لا يجتمعان، فلا يمكن أن يكون إنسان عبدا وحرا في آن واحد، فإما عبد مسلم منقاد لأمر ربه، وإما غير ذلك ، وأما أن يجتمع الإسلام والحرية المطلقة فإن هذا لا يكون أبدا.
فإن قيل لك: ما الحرية إذاً التي لا تتعارض مع الإسلام؟
فقل: هي الحرية التي لا تخرج عن حدود العبودية لله، وإن شئت فقل: هي حرية في إطار شرع الله.
وليس في هذا ما يعاب على الإسلام مِن قِبَل أعدائه؛ لأنهم أيضا لا يقولون بالحرية المطلقة لِمَا رأوا فيها من ضياع مصالحهم وحقوقهم وممتلكاتهم، فهم يقولون: حريتك تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين، أي بعبارة أخرى: أنت حر ما لم تعتد على حقوق الآخرين.
فهم متفقون معنا أن هذه الحرية تحتاج إلى ضوابط تضبطها وإلا تحولت إلى فوضى عارمة وأضرت أكثر مما نفعت، ولذلك فهم يلاحقون المجرمين الذين يعتدون على دماء الناس وأموالهم ويعاقبونهم.
فلا خلاف بيننا وبينهم أنه لا بد من ضوابط تضبط الحرية وتقيدها، مع أن لفظ “الحرية” من الألفاظ البراقة التي تحبها الأنفس وتنجدب نحوها، وفي المقابل لفظ: “تقييد الحريات” من الألفاظ المنكرة التي تشمئز منها أنفس القوم. والواقع أنهم يقيدون الحريات كما سبق ونحن أيضا نقيد، لكن لهم ضوابطهم ولنا ضوابطنا، وقد كبر عليهم وأغاظهم أن لا تكون ضوابطنا نسخة طبق الأصل لضوابطهم.
فنحن المسلمون عندنا حق نراه أولى الحقوق بالرعاية، ألا وهو حق الله، فإذا كانوا هم يراعون حقوق بعضهم في الحريات، فنحن نراعي قبل ذلك حق الله الذي نؤمن به، فهل يُعقل أن يكون للناس كلّهم -وبدون استثناء حتى المجرمين منهم- حقوق تراعى وتحترم وأن لا يكون لرب الناس وخالقهم أي حق يذكر!؟
القضية مبناها على الإيمان بهذا الرب، وهل هو موجود فيحترم ويستحيى منه، أم هو مجرد خيال فلا يعبأ به؟
فالمسلم يقول: الله حق، وهو معي بعلمه أينما كنت، فيجب أن أرعى حقه فيما أقول بلساني، وفيما أخطه ببناني، وفي كل شأني. والملحد يقول: ليس هناك رب أصلا، فإن وجد فليس له حق يستحق الرعاية.
ومن عجيب تناقض القوم أنهم يرفعون شعار حرية الرأي والتعبير، لكن صدورهم لا تتسع لأن يخالفهم المسلمون الرأي حتى في ضوابط الحرية التي يدعون إليها.
ولذلك تضيق صدورهم إذا رأوا المسلمين يغضبون على من نال من ربهم أو نبيهم، ويعتبرونهم متخلفين وخانقين للحريات. وأعجب من ذلك أن ترى من بني جلدتنا وممن يتكلم بألسنتنا من يتبنى الموقف نفسه، وينعق وراء أسياده، لأنهم لقنوه حدود الحرية وضوابطها، فهو تلميذ مجتهد، ومريد نجيب، ومن شأن المريد أن لا يعترض على شيخه، وأن يكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله، فإن إسلاس القياد لملحد مرشد شرط في السلوك.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
ولو تأمل هؤلاء المغرَّر بهم، والمحجور على عقولهم قليلا لوجدوا أن أسيادهم يرخصون لهم في الاستهزاء بربهم ونبيهم، وإذا فعلوا ذلك ألبسوهم التاج، وقالوا لهم: أنتم أنتم القوم.
لكنهم في المقابل لا يسمحون لهم بالطعن في الصهاينة، ويقولون لهم: إذا ذُكِرَ اليهود فأمسكوا، وإلا اتهمتم بمعاداة السامية، وليس هذا فقط، بل ليس لكم الحق أن تشككوا في المحرقة (الهولوكست) وإلا كنتم عرضة للمحاكمة.
فما هذه القسمة الضيزى؟
وأين هي الحرية المزعومة؟
أم إنه الكيل بألف مكيال؟
إنها حرية بالمقاس الغربي الأمريكي، ويا ويل من يتصرف في المقاسات، بل عليهم التفصيل، وعلينا أن نلبس، لأنهم اعتادوا على الإنتاج واعتدنا على لُبْسِ الجاهز، ولا يضرنا طول كُمٍّ مهما كان مفرطا، ما دمنا سائرين على الموضة.
وتعجبني بهذه المناسبة كلمة الصحفية البريطانية “إيفون ريدلي” ضمن فعاليات المؤتمر العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي في القاهرة حيث قالت: “إن هؤلاء العرب الذين يريدون أن يكونوا غربيين في سلوكهم أكثر من الغربيين أنفسهم يثيرون السخرية أمام الآخرين”.
فلماذا نرضى الذل والهوان وقد أعزنا الإسلام؟ ولماذا نقبل أن نكون أذنابا لغيرنا وقد جعلنا الإسلام رؤوسا؟
لماذا نتكبر عن العبودية لله -بدعوى الحرية- ونرضى أن نكون عبيدا لقوم غضب الله عليهم، ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وعبدوا الطاغوت.
لماذا لا نفك القيد، ونكسر الطوق، ونعلنها على رؤوس الأشهاد:
رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.