نشرت جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم الخميس 16 أكتوبر، العدد 8998 مقالا للدكتور أحمد الخمليشي ناقش فيه الدكتور محمد المغراوي حول قضية زواج الصغيرة، وقد وجدت في هذه المناقشة أخطاء علمية فادحة، رأيت أن أرد عليها في حِلَقٍ تأتي تباعا إن شاء الله تعالى، ولكن قبل ذلك أود أن أوضح أن ردي على الدكتور الخمليشي لا يعني أني أشجع على زواج الصغيرات، أو أدعو إليه، وذلك لأني أعتقد أنه لا بد من مراعاة أعراف الناس ما لم يكن في الشريعة ما يحرمها، فهناك أمور دلت الشريعة على إباحتها، إلا أنها منكرة عرفا، ومعدودة في خوارم المروءة، فلا أحب أن يُفهم من ردي على الدكتور الخمليشي أني أدعو إلى مخالفة مدونة الأسرة، وإنما المقصود هو بيان ما وقع فيه الدكتور من هفوات علمية وأخطاء تتنافى مع البحث العلمي النـزيه.
قوله: “الآية 6 من سورة النساء «وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ» تنص صراحة على ربط أهلية الزواج بالأهلية المدنية أو الرشد القانوني. فلفظ «النكاح» كما يعني الاتصال الجنسي يعني كذلك «الزواج»”.
قلت: سياق الآية لا يساعد الدكتور على ما يريد من الربط بين أهلية الزواج والرشد، وذلك لأن الله تعالى قال: حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فاشترط الله تعالى لتمكين اليتامى من أموالهم مع بلوغ النكاح تحقق الرشد، ومفهوم الشرط يفيد أنهم إذا بلغوا النكاح ولم يكونوا راشدين فلا تدفع إليهم أموالهم، وهذا صريح الدلالة على أن بلوغ النكاح شيء آخر غير الرشد، وإلا صار معنى الآية: (حتى إذا بلغوا الرشد (أهلية الزواج) فإن آنستم منهم رشدا) وفي هذا تَكرار ينـزه عنه القرءان. فإذا كان بلوغ النكاح غير الرشد لم يبق إلا ما ذكره العلماء وهو بلوغ الحلم. قال القرطبي: “قوله تعالى: حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ، أي: الحلم، لقوله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ [النور59]، أي: البلوغ”، وبذلك فسره حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والتابعي الجليل مجاهد بن جبر رحمه الله ، ويؤيده أن البلوغ هو مناط التكليف. فالآية اشترطت لدفع المال إلى اليتيم شرطين هما: البلوغ والرشد، لا يغني أحد الشرطين عن الآخر. قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة222]: “وهذا مثل قوله تعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ الآية، فعَلَّق الحكم -وهو جواز دفع المال- على شرطين: أحدهما بلوغ المكلف النكاح، والثانى: إيناس الرشد”. فالآية إذاً في موضوع الحجر على اليتامى، ولا علاقة لها بتحديد سن أهلية الزواج. والغريب من صنيع الدكتور أنه ادعى أن الآية ربطت أهلية الزواج بسن الرشد القانوني (18 سنة)، وليس بسن الرشد بالمعنى اللغوي أو الشرعي للرشد، وكأن القرءان نزل بعدما حددت المدونة سن الرشد القانوني، وهذا من أقوى الأدلة عندي على أن الدكتور –شعر أو لم يشعر- ينهج منهج “اعْتَقِدْ ثُمَّ اسْتَدِل”، وأنه يلوي أعناق النصوص لتلتقي مع ما يعتقده مسبقا، ولا ينقاد لمعناها بتجرد وموضوعية.
قوله: “لكن الفقه الذي نشأ في مجتمع حاضن لظاهرة تزويج الصغار، باعتبارها عرفا مقبولا وتقليدا مرغوبا فيه -ولكي لا يصطدم مع هذا العرف- التجأ إلى التأويل وتفسير كلمة «النكاح» بلفظ «الحلم» رغم أنه لا علاقة بين اللفظين لا لغوية ولا اصطلاحية. حتى الاستعمال المجازي يحتاج ادعاؤه إلى سند يثبته، فضلا عن وجود جامع بين اللفظين المستعمل أحدهما مكان الآخر”.
الفقه الذي يتحدث عنه الدكتور بهذا الأسلوب هو فقه السلف وتفسيرهم للآية التي استدل بها، وذلك أنه لم يجد من المفسرين من قال بقوله، فاتهمهم بتفسير القرءان بما يوافق أهواءهم وأعرافهم ولو كانت هذه الأعراف مخالفة للشرع بزعمه. فرماهم بما فيه، وانطبق عليه المثل القائل “رمتني بدائها وانسلت”. ولذلك أجدني مضطرا لأن أقلب على الدكتور عبارته فأقول: «الفقه الذي تشبع صاحبه بالفكر الغربي، حتى بلغ منه العظم والنخاع، التجأ إلى تأويل “بلوغ النكاح” بـ”بلوغ سن الرشد القانوني”، حتى لا يصطدم مع مشربه العَلماني، وثقافته الغربية».
وأما العلاقة بين لفظتي “النكاح” و”الحلم” فهي علاقة ظاهرة إذا تذكرنا أن النكاح في الأصل هو الوطء والجماع (انظر لسان العرب: مادة نكح)، فلا فرق بين النكاح (الجماع) والحلم (الاحتلام) إلا اليقظة والنوم، والجامع بينهما هو قضاء الشهوة بالإنزال، مما يدل على تحقق البلوغ، فما المانع من أن يفسر أحدهما بالآخر، خاصة إذا كان المفسر هو حبر الأمة، وترجمان القرءان عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو مشهور بفصاحته، كما أنه ينتمي إلى عصر الاحتجاج الذي حدده علماء اللغة بما يقارب 150هـ، فكلامه رضي الله عنه حجة في اللغة.
ومن جهة أخرى فإن المفسرين رحمهم الله فسروا قوله تعالى: “بلغوا النكاح”، ولم يفسروا لفظة “النكاح” مجردة عن سياقها كما فهم الدكتور، ومن المعلوم عند المفسرين أن تفسير القرءان لا يقف عند المعنى اللغوي أو الاصطلاحي لكل لَفظة، وهو التفسير باللفظ المطابق، بل إن هناك ما يسمى بالتفسير باللازم، فـ”بلوغ النكاح” يلزم منه “بلوغ الحلم”. وقد أخطأ الدكتور خطأ فاحشا إذا كان يظن أن القرءان يُفَسَّر بتفسير كل لفظة على حدة بغض النظر عن مدلولها في السياق، فصنيعه هذا شبيه بمن يترجم القرءان إلى لغة أخرى ترجمة حرفية، بحيث يترجم كل كلمة إلى ما يقابلها في اللغة الأخرى من غير مراعاة للمعنى العام الذي يراد بالكلام، وما التفسير إلا نوع من الترجمة ولذلك لقب ابن عباس ب”ترجمان القرءان”.
فأنا أدعو الدكتور إلى التأدب مع السلف، وإلى أن يعرف لهم فضلهم وقدرهم من العلم والتقوى والورع. وأنصحه بقراءة كتاب “فضل علم السلف على علم الخلف” لابن رجب الحنبلي .
قوله: “ويبدو مؤكدا أن السيد المغراوي – وهو ممن كتبوا في تفسير كتاب الله – أهمل هذه الآية بناء على التفسير المنقول عن السابقين”.
السيد المغراوي سئل عن معنى قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ الآية، وهي تتحدث عن عِدَدِ النساء، ولم يسأل عن تفسير قوله تعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى الآية، التي هي في موضوع الحَجر على اليتامى، فأي علاقة بين الآيتين حتى يقال إنه أهملها؟! ثم إن الدكتور الخمليشي بنى رده هنا على افتراض أن الشيخ فسر النكاح بالحلم في آية اليتامى، ثم بدأ يرد على ما افترضه هو لا على ما قاله الشيخ، وليس هذا بأسلوب علمي في الرد.
قوله في حديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت تسع: “بصرف النظر عن سند الرواية، نود إثارة ملاحظتين على متنها ومضمونها..”.
البحث في صحة رواية ما يكون بالنظر في سندها ومتنها، وليس بصرف النظر عن سندها ثم محاولة رد متنها بالظنون والتخمينات، ولا يليق بمدير “دار الحديث” أن يفوته مثل هذا.
قوله: ” قصة زواج الرسول بابنة أبي بكر الصديق ليست منفصلة عما يحكى عن زواجه بخديجة بنت خويلد…إلخ”، ثم بدأ يرد على رواية زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة وهي في سن الأربعين أو الخمس والأربعين.
يبدو أن الدكتور كان قد هيأ ردا على رواية سن زواج خديجة رضي الله عنها، وليس على رواية سن زواج عائشة رضي الله عنها، فاختلق بين الروايتين علاقة وهمية نسجها من بنات أفكاره؛ ليتوصل إلى رد الرواية الثانية عن طريق إبطال الرواية الأولى ، مع أنه لا يلزم من عدم ثبوت إحدى الروايتين عدم ثبوت الأخرى، فحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، وقد أجمع المحدثون على صحته بخلاف سن زواج خديجة رضي الله عنها فإنه لم يثبت بإسناد تقوم به حجة، كما أن الروايات في تحديده مختلفة. فهذا ابن إسحاق يقول: “..وكان لها يوم تزوجها ثمان وعشرون سنة” (المستدرك3/200)، ويقول ابن كثير: “..وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين، وقيل خمسا وعشرين سنة” (البداية والنهاية 2/295).
فكيف يرد الدكتور رواية عائشة الصحيحة بروايات سن زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي روايات مضطربة ليس لها إسناد ثابت؟! كما إنه كان على الدكتور حين تحمل مسؤولية التحقيق العلمي في هذه الروايات أن يبين عدم ثبوتها سندا قبل أن يتكلم عليها متنا.
قوله: ” إذا ثبت التلفيق في سن خديجة عند زواجها بالرسول (ص)، فكيف تصدق الرواية المتعلقة بسن عائشة عند الزواج بها؟ والحال أن الهدف من نسجهما واحد؟” (أي:النيل من النبي صلى الله عليه وسلم).
هذه دعوى بدون دليل، ولا مستند لها إلا الظن المجرد، كما قال تعالى: “إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً”(النجم28)، وما أَدْرَى الدُّكتور أن سن زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم نُسج لأجل الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل خفي ذلك على العلماء حتى اكتشفه الدكتور في القرن الواحد والعشرين؟! وهل كل رواية استغلها المستشرقون وأذنابهم من المسغربين في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم يلزمنا القول ببطلانها؟! ألم يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم لجمعه بين تسع نسوة؟! فهل سينكر الدكتور أيضا هذه الحقيقة -وهي في الصحيحين- مستدلا بتلفيق سن زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم، مدعيا أن “الهدف من نسجهما واحد”.