لقد أصبح واضحاً أكثر من ذي قبل انحيازُ الأمم حسب معتقداتها وفكرها ومصالحها، فلم تُظهر الدول النصرانية والشيوعية امتعاضاً يُذكر لما يصنعه اليهود بالمسلمين.
بل استعملت الولايات المتحدة حق “الفيتو” للتدخل لمنع إصدار قرار يدين توغل الكيان الصهيوني في قطاع غزة مع أنها لا تتورع في ادعاء كونها راعية للسلام المزعوم، والمنادية بعالم لا عنف فيه ولا حرب، فماذا يعني ذلك؟
وجاء قرار مجلس الأمن بشكل عام بارداً وضعيفاً.
لقد تأكد لكل ذي عقل وبصيرة أن الأمم المتحدة بكافة منظماتها لن تقدم على شيء يكون فيه مصلحة للمسلمين بله أن يتضمن مضرة للكيان الصهيوني.
لذا، فحري بالأمة المسلمة أن ينحاز بعضها إلى بعض، وتردم الخلافات الفرعية بين أبنائها لمواجهة الأمتين اليهودية والنصرانية، فحرب المستقبل ليست صراعاً على النفوذ فحسب بل هي حرب وجود، حرب عقائد وإن سُيِّست، والمعركة القادمة لن تكون نزاعاً بين الفلسطينيين أو حتى العرب مع “إسرائيل”.
لقد نجح الفلسطينيون في التعبير عن مشاعرهم، وأثبتوا لأنفسهم وللعالم أنهم لن يستسلموا لبني صهيون وإن لم تكن قوتهم مكافئة أو مقاربة لقوة عدوهم، وصدق المسلمون في صدق مشاعرهم ومؤازرتهم لإخوانهم، وجددوا أمام العالم حرصهم وانتماءهم لعقيدتهم ومقدساتهم، ولكن هذه الانتفاضة التي راح ضحيتها عدد من أبناء فلسطين قتلى وجرحى، وما نتج عنها من ألم وشكوى، وهذه الانتفاضة والمشاعر الإسلاميـة المعبـرة، ما ثمنهـا؟ لا سيما أنه يُراد لها أن تنتهي، أفتنتهي بحلول بسيطة ومكاسب محدودة لا تساوي نزيف الدماء ولا تأوهات الجرحى ولا صيحات المسلمين هنا وهنا؟!
وحين يرقب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نتائج مؤتمرات القمم العربية فهل ينتظر المسلمون من المؤتمرين امتصاص الغضبة وسحب الغليان، والرضى بالبيانات المجردة.. أم كان ينبغي أن يتجاوزوا ذلك ويكونوا عند أو فوق تطلعات شعوبهم؟ فما عاد العهد مع اليهود، ولا الوعود مع بني صهيون تجدي فتيلاً، لا بد من المطالبة بحلول عملية والانتهاء إلى قرارات جادة تكفي ثمناً لهذه الانتفاضة، وتتجاوب مع هذه العواطف الجياشة، وعلى المسلمين جميعاً ألا يفتُروا ما دام الفتيل أشعل حتى يضيء الحق في أرضنا ويُجلى اليهود عن مقدساتنا.
القضية أمانة وليست للمزايدة:
نعم! إن قضية فلسطين مسؤولية إسلامية لا تقبل المزايدة! وسيحتفظ التاريخ بسجلات مواقف البطولة المعاصرة كما حفظ البطولات والمواقف السابقة، وسيسجل في مقابل ذلك كل موقف متخاذل، وكل مزايدة على هذه القضية العالمية المشروعة، وعلى العرب والمسلمين شعوباً وحكومات أن يختاروا نوعية المداد وطبيعة الموقف الذي يسجلونه ويتخذونه لقضية فلسطين، وما يخفى اليوم يظهر غداً، وما يظل غائباً عن أعين البشر فسينكشف يوم التلاق.
إن العالم بمِلله وأديانه يسخر بالمتزايدين، ويرفض المتاجرة بقضايا الآخرين، ولا تزال الشخصيات الإسلامية ذات الموقف الإسلامي البطولي من قضية فلسطين لا يزالون يُذكَرون بخير وهم محل الحفاوة والتقدير، ليس من المسلمين فحسب بل ومن غيرهم، وذكرى هؤلاء محفورة في أذهان المسلمين، وستظل كذلك وسينضاف إليها من سار على نهجهم فنصح لنفسه ولأمته وأخلص لقضيته ودافع عن مقدسات المسلمين.
جذوة الإيمان وإحباط الأعداء:
وعلى الرغم من سياسات تغريب الأمة المسلمة ومحاولة طمس هويتها واستخدام العولمة للتغريب إلا أن الواقع أثبت بقاء جذوة الإيمان في تكوين المسلمين، وما تزال العواطف والمشاعر الإسلامية مختزنة إذا ما استُجيشت جاشت، وهذه وتلك تمثل رصيداً للأمة يمكن أن تستثمره في الوقت المناسب. وتؤكد المقاومة -وإن كانت تحتاج إلى مزيد من الترشيد والمآزرة- أن تعبئة الأمة ليست بالأمر العسير ولا المستحيل، وحين يتوفر القادة الذين يصدقون مع الأمة ويأخذون بأيدي أبنائها فسيجدون من يسير خلف رايتهم ويشد من أزرهم.
وهكذا تبقى أمة الإسلام أمة فيها خير، يتجدد الإيمان في نفوسها كلما تعاظم الأعداء واشتدت الحاجة وادلهمَّ الظلام، وهذا كله محبطٌ للأعداء، ومشعر لهم بإفلاس وسائلهم في الإفساد، ومؤشرٌ إلى أن النصر في النهاية لهـم.
استدامة الشعور ويقظة المشاعر:
ينبغي ألاَّ نضيِّع هذا الرصيد من المشاعر بتفريغه في ساعات المحنة ثم تغيب القضية عن أذهاننا، بل إن من أبرز مكاسب هذه المقاومة أن تظل قضية فلسطين هدفا ماثلاً في أذهاننا، وأن تظل المقدسات الإسلامية غاية مهمة نسعى جاهدين لتخليصها ممن غضب الله عليهم ولعنهم، وأن يستمر دعمنا لإخواننا في فلسطين بأموالنا وعواطفنا وأنفسنا حتى يرفع الظلم عنهم ويُجلى العدو من أرضهم، ذلك درس مهم، وذلك تحدٍ يواجه المسلمين في المستقبل، فهل يستمرون في حماسهم لقضيتهم حتى يقضي الله بينهم وبين عدوهم؟ ذلك ما نرجو ونأمل.