إن المجتمع الذي يجهر بعض أفراده بالتمرد على قيمه التي أسِّس عليها بنيانُه وترسخ عليها بناؤه؛ مجتمع يحمل في ذاته عاملا خطيرا من عوامل الهدم والتفكيك.
وتتأكد الخطورة حين يتعلق الأمر بالدين المرتضى وما ثبت فيه من أحكام ضاق بها ذرعا العلمانيون الذين لا يزالون مصرين على اعتبار مظاهر التدين عائقا في طريق التقدم والتحديث، ولا يزالون حريصين على التعامل معها تعامل النصارى مع دينهم المحرف!
وقد بدا هذا التوجه جليا في الحملة التي شنتها -ولا تزال- آلة الهدم العلمانية على حجاب المرأة المسلمة، والذي تلتزم به شرائح واسعة في مجتمعنا المغربي رغم كثرة المغريات والملهيات وقلة المحفزات والمشجعات.
وليت شعري ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؛ فإن المحجبات أكدن تمسكهن بحجابهن الذي يتاجرن به تجارة لن تبور، تجارة لا يستثمر فيها إلا من ذاق حلاوة الإيمان، تجارة تتعالى وتتسامى على السفاسف التي أدار حولها عزيز السالمي فيلمه الهزيل.
لقد حورب الحجاب في مصر وتونس وتركيا بما لا مزيد عليه من أنواع القمع وأشكال الإرهاب، -إرهاب أظهر العروي الماركسي أمنيته الكبيرة في سلوكه مع محجبات المغرب!- فما ازداد الحجاب مع ذلك إلا انتشارا وتمكنا من واقع تلك المجتمعات.
وفي دراسة أنجزها العلمانيون أنفسهم حول القيم والممارسات الدينية عند المغاربة والذي كان بتمويل من منظمة “فريدريك إيبيرت” الألمانية، صرح (84%) من المغاربة المستجوبين أنهم يؤيدون التزام المرأة للحجاب ويرفضون اعتباره مجرد عادة قابلة للتغيير بتغير الأنماط والبيئات كما يحلو للعلمانيين أن يصفوه!
إن الحجاب قربة دينية أحاطها الفقه الإسلامي بأحكام شرعية وآداب مرعية، ونزلت فيه نصوص من القرآن الكريم والسنة المشرفة، مما يجعل له قيمة ومنزلة تعلو على تصرف يتناوله في إطار فني مشبوه، أو سياق سينمائي ساقط.
وإنما يدرك ذلك ويعمل على مقتضاه؛ من عرف لربه حقه، ولدينه مكانته، “ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ”.
أما من تسلل داء (كراهية أحكام الشرع) إلى قلبه، واستحكمت تلك الكراهية في نفسه؛ فإنه لا يرقب في عمله شيئا من ذلك..
إن السخرية بالحجاب والمحجبات باسم الفن والسينما، يعد نوعا جديدا من أنواع الحرب العلمانية على الحجاب، تأتي بعد فصول حرب شنتها الصحافة غير المسئولة (صحيفة الأحداث المغربية نموذجا)، وأخرى تولت كبرها بعض الجهات الإعلامية المتحيزة للطرح العلماني (2M) نموذجا.
وقد سُوغ ذلك السلوك المشين بذريعة واهية؛ وهي: التشخيص السينمائي لظاهرة اجتماعية! وكأن الظواهر التي يمكن تناولها قد انتهت وانقضت، ولم تبق إلا المواضيع التي تحملنا على الإساءة إلى الدين وأحكامه!
وهذا التسويغ يذكرنا بالأعمال (الفنية) لنجيب محفوظ التي ركزت في وصف واقع المجتمع المصري على صور تنفر من الدين والتدين، وتصف أهله بالتناقض والاضطراب، فلما انتُقد أجاب بنفس جواب مخرج فيلم “حجاب الحب”، وقد احتفى أعداء الأمة بأعماله وأبرزوها وكافئوه عليها، وهي شهادة على تحقيقها لبعض مقاصدهم، وما عساها تكون مقاصد من ثبت عداؤه للأمة؟!
فلو كان النقد السينمائي لظواهر المجتمع هو الدافع فعلا لهذا التصرف غير المسئول؛ لما عدم مظاهر أخرى يملأ بها المخرج فراغه موقرا أحكام الشرع ومراعيا لمشاعر آلاف المواطنين..
وإذا كنا نقر بوجود متدينين ينافقون، أو محجبات يخادعن أنفسهن، وأخريات مذبذبات بين الاستقامة والانحلال؛ فإننا نرفض أن يتخذ هذا ذريعة للسخرية من الحجاب والمحجبات الصادقات، والإيهام بأن التناقض حال سائر المحجبات، وأنهن مضطربات نفسيا لأن رغبتهن يتجاذبها نداءان: نداء التدين والعفة، ونداء الانسلاخ والحرية البهيمية!
.. ومما يتعين توضيحه أن التجاذب المذكور حال طبعي وليس برهانا على التناقض أو الاضطراب النفسي، لما هو معلوم -شرعا وحسا- من أن الإنسان في هذه الحياة معرض لخطابين: أحدهما يدعوه إلى الخير والآخر يدعوه إلى الشر، وإنما جاء الشرع ليبين للإنسان الطريق الواجب اتباعه، والوسائل المعينة على لزومه، ..وهذا يفضي به إلى الطمأنينة والسكينة، وينجيه من عواصف الاضطراب والتناقض:
“الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28).
فهذا الحال ينبغي أن يعالج معالجة شرعية؛ توضح الجملة المتقدمة وتحصن النفوس من الانسياق مع نوازع الشر والانحراف، أو الحيرة بين طريقين متناقضين، وهذا تخصص العلماء الربانيين، الذين يتوخون الإصلاح، وينقذون الناس من مخالب النفاق أو التذبذب، أما ما أقدم عليه المخرج السالمي وفريقه السينمائي فيزيد الطين بلة والداء استفحالا، ويشجع التطاول على الدين والمتدينين، كما يكرس ظاهرة النفاق الديني عند ضعاف النفوس وقليلي العلم ..